فصل اختلف الناس في أن فرعون هل قصد بناء الصرح ليصعد منه إلى السموات أم لا ؟ قال ابن الخطيب : أما الظَّاهِرِيُّونَ من المفسرين فقد قطعوا بذلك، وذكروا حكاية طويلة في كيفية بناء الصرح.
والذي عندي أن هذا بعيدٌ، والدليل عليه أن فرعون لا يخلو إما أن يقال : إنه كان مجنوناً أو عاقلاً، فإن كان مجنوناً لم يجز من الله ـ عزّ وجلّ ـ أن يذكر حكاية كلامه في القرآن، وإن كان عاقلاً فنقول : إن كل عاقل يعلم ببديهة عقله أنه يتعذر في قدرة البشر وضع بناء يكون أرفع من الجبل العالِي ويعلم أيضاَ ببديهة عقله أنه لا يتفاوت في البصر من حال السماء بين أن ينظر إليها من أسفل الجبال وبين أن ينظر إليها من أعلى الجبال، وإذا كان هذان العلمان بديهيَّان امتنع أن يقصد العاقل وضع بناء يصعد منه إلى السماء، وإذا كان فاسداً معلوماً بالضرورة امتنع إسْنَادُهُ إلَى فِرْعَوْنَ.
والذي عندي في تفسير هذه الآية، أنَّ فِرْعَونَ كان من الدهرية، وغرضه من هذا الكلام إيراد شبهة في نفي الصانع وتقريره أنه قال : إنّا لا نرى شيئاً نحكم عليه أنه إله العالم، فإنه لو كان موجوداً لكان في السماء، ونحن لا سبيلَ لنا إلى صعود السموات فكيف يمكننا أن نراه، ثم إنه لأجل المبالغة لبيان أنه لا يمكن الصعود إلى السماء قال :﴿يا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّى أَبْلُغُ الأَسْبَابَ﴾ والمقصود أنه لما عرف كل أحد أن هذا الطريق ممتنع كان الوصول إلى معرفة وجود الله بطريق الحِسِّ ممتنعاً.
ونظيره قوله تعالى :﴿فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ﴾ [الأنعام : ٣٥] وليس المراد منه أن محمداً ـ عليه الصلاة والسلام ـ طلبَ نفقاً في الأرض، أو وضع سُلَّماً إلى السماء بل المعنى أنه لما عرف أن هذا المعنى ممتنع فقد عرف أنه لا سبيلَ لك إلى تحصيل ذلك المقصود، كذا ههنا غرض فرعون من قوله :﴿يا هامان ابن لي صرحاً﴾ يعني أن الاطلاع إلى إله موسى لما كان لا سبيل إليه إلا بهذا الطريق، وكان هذا الطريق ممتنعاً، فحينئذ يظهر منه أنه لا سبيل إلى معرفة الإله الذي يثبته موسى.
واعلم أن هذه الشبهة فاسدةٌ ؛ لأن طرق العلم ثلاثة : الحِسّ، والخَبَر، النَّظَر، ولا يلزم من انتفاء طريق واحد ـ وهو الحِسَّ ـ انتفاء المطلوب ؛ وذلك لأن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان قد بين لفرعون أن الطريقَ في معرفة الله تعالى إنما هو الحُجَّة، والدليل كما قال :﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأَوَّلِينَ﴾ [الشعراء : ٢٦] ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾
٥٤
[المزمل : ٩] إلا أن فرعونَ بِخُبْثِهِ ومَكْرهِ تغافل عن ذلك الدليل، وألقى إلى الجُهّال أنه لما كان لا طريق إلى الإحساس بهذه الإله وجب نفيه.
قوله :" أسْبَابَ السَّمَواتِ "، فيه وجهان : أحدهما : أنه تابع " للأسباب " قبله، بدلاً أو عطف بيان.
والثاني : أنه منصوب بإضمار أعني.
والأول أولى ؛ إذ الأصْلُ عدمُ الإضمار.
قوله :" فَأَطَّلِعَ " العامة عنلى رفعه عطفاً على أبلغ فهو داخل في حيز الترجي ؛ وقرأ حفص في آخرين بنصبه وفيه ثلاثة أوجه : أحدهما : أنه جواب الأمر في قوله " ابن لي " فنصب بأن مضمرة بعد الفاء في جوابه على قاعدة البصريين كقوله : ٤٣٤٠ـ يا نَاقُ سِيرِي عَنَقاً فَسِيحا
إلَى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَرِيحَا
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٥٣
وهو أوفق لمذهب البصريين الثاني : أنه منصوب، قال أبو حيان : عطفاً على التوهم ؛ لأن خبر " لعل " جاء مقروناً " بأن " كثيراً في النظم، وقليلاً في النثر، فمن نصب توهم أن الفعل المضارع الواقع خبراً منصوب " بأن " والعطف على التوهم كثير وإن كان لا ينقاس.
الثالث : أن ينتصب على جواب الترجي في لعل، وهو مذهب كوفي استهشد أصحابه بهذه القراءة وبقراءة نافع ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى ﴾ [عبس : ٣ـ٤] بنصب " فتنفعه " جواباً لـ " لعله ".
وإلى هذا نحا الزمخشري، قال :" تشبيهاً للترجي بالتمني ".
والبصريون يأبون ذلك ويخرجون القراءتين على ما تقدم.
وفي سورة عبس يجوز أن يكون جواباً للاستفهام في قوله :" وَمَا يُدْرِيكَ " فإنه
٥٥
مترتبٌ عليه معنًى.
وقال ابن عطية وابن جبارة الهذلي على جواب التمني، وفيه نظر ؛ إذ ليس في اللفظ تمن، إنما فيه ترجٍّ، وقد فرق الناس بين التَّمنِّي والتَّرجِّي، بأن الترجي لا يكون إلا في الممكن عكس التمني فإنه يكون فيه وفي المستحيل كقوله : ٤٣٤١ـ لَيْتَ الشَّبابَ هُوَ الرَّجِيعُ عَلَى الفَتَى
والشَّيْبُ كَانَ هَوَ البَدِيءَ الأَوَّلُ