وجب أن يقال : كُلُّ من عمل صالحاً واحداً من الصالحات فإنه يدخل الجنة، ويُرْزَقُ فيها بغير حساب، والآتي بالإيمان والمواظب على التوحيد والتنزيه والتقديس مدة ثمانين سنة قد أتى بأعظم الطاعات، وبأحسن الطاعات، فوجب أن يدخل الجنة، والخصم يقول : إنه يَخْلُدُ في النار أَبَدَ الآباد، وذلك مخالف لهذا النص الصريح.
قالت المعتزلة : إنه تعالى شرط فيه كونه مؤمناً، ومرتكب الكبيرة عندنا ليس بمؤمن، فلا يدخل في هذا الوعد والجواب ما تقدم في قوله :" يُؤْمِنُون بالغَيْبِ " فإن صاحب الكبيرة مؤمن فَسَقَطَ كلامُهُمْ.
فصل دلت هذه الآية على اعتبار المماثلة في الشريعة، وأن الزائد على المِثْلِ غير مشروع، وليس في الآية بيان أن تلك المماثلة معتبرةٌ في أي الأمور، فلو حملناها على رعاية المماثلة في جميع الأمور صارت الآية عامةً خاصة.
وقد ثبت في أصول الفقه أن التعارض إذا وقع بين الإجمال والتخصيص كان الأول أولى، فوجب أن تحمل هذه الآية على رعاية المماثلة من كل الوجوه إلا ما خَصّهُ الدليل وإذا ثبت ذلك بني عليه أحكامٌ كثيرة من الجنايات على النفوس والأعظاء والأموال ؛ لأنه تعالى بين أنَّ جزاءَ السيئة مقصورٌ على المِثْلِ، وبين أن جزاء الحسنة ليس مقصوراً على المِثْلِ بل هو خارج عن الحساب.
قوله تعالى :﴿ ويا قوم مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِى إِلَى النَّارِ﴾.
قوله تعالى :﴿ ويا قوم ﴾ قال الزمخشري : فَإن قُلْتَ : لِمَ جاء بالواو في الناداء الثالث دون الثاني ؟ قلت : لأن الثانيَ داخل على كلام هو بيان للمجمل، وتفسير له، فأعطي الداخل عليه حكمه في امتناع دخول الواو.
وأما الثالث فداخلٌ على كلام ليس بتلك المَثَابَةِ، أي كلام مباين للأول والثاني، فَحَسُنَ إيرادُ الواو العاطفة فيه.
وكرر النداء لأن فيه زيادةَ تنبيه له وإيقاضاً من سنة الغفلة، وأظهر أن له بهذا مزيدَ اهتمامٍ، وعلى أُولئك الأقوام فرط شفقة.
قوله :﴿وَتَدْعُونَنِى إِلَى النَّارِ﴾ هذه الجلة مستأنفة، أخبر عنهم بذلك بعد استفهام عن دعاء نفسه ويجوز أن يكون التقدير : وما لكم تدعونني إلى النار، وهو الظاهر، ويضعف أن تكون الجملة حالاً، أي مالكم أدعوكم إلى النجاة حال دعائكم إياي إلَى النار.
٥٨
قوله :" تَدْعُونني " هذه الجملة بدل من " تَدْعُونَنِي " الأولى على جهة البيان لها.
وأتى في قوله " تَدْعُونَنِي " بجلمة فعلية ؛ ليدل على أن دعوتهم باطلة لا ثبوت لها، وفي قوله :" وَأَنَا أَدْعُوكُمْ " بجلمة إسميَّة ؛ ليلد على ثُبُوتِ دعوته وتَقْوِيَتِهَا.
فصل معنى قوله :" مَالَكُمْ " كقولك : ما لي أراك حزنياً، أي مالك، يقول : أخبروني عنك، كيف هَذِهِ الحال ؟ أدعوكم إلى النجاة من النار بالإيمان بالله، وتدعونني إلى النار بالشرك الذي يُوجِبُ النار، ثم فصر فقال ﴿تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾.
والمراد بنفي العلم نفي الإلهة كأنه قال : وَأُشْرك به ما ليس لي بإله، وما ليس إله كيف يُعْقَلُ جَعْلُهُ شريكاً للإله ؟ ولما بين أنهم يدعونه إلى الكفر بيَّنَ أنه يدعوهم إلى الإيمان بالعزيز الغَفَّارِ، " العزيز " في انتقامه ممن كفر، " الغفار " لذنوب أهل التوحيد.
فقوله :" العَزِيزِ " إشارة إلى كونه كامل القدرة، وأما فرعون فهو في غاية العجز، فكيف يكون إلهاً ؟ وأما الأصنام فهي حجارة منحوتة فيكف يعقل كونها آلهة ؟ قوله :" الغَفَّار " إشارة إلى أنهم يجب أن لا يَيْأَسُوا من رحمة الله بسبب إصرارهم على الكفر مُدّةً مَدِيدَة فَإنَّ إله العَالَم، وإن كان عَزِيزاً لا يُغْلبُ، قادراً لا يعارض، لكنه غافار يغفر كفر سبيعنَ سنة بإيمان ساعةٍ واحدةٍ.
قوله :" لاَ جَرَمَ " تقدم الخلاف في " لاَ جَرَمَ " في سورة هود في قوله :﴿لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ﴾ [هود : ٢٢]، وقال الزمخشري هنا :" ورُوِيَ عن بعض العرب : لا جُرْمَ أنه يفعل كذا ـ بضم الجيم وسكون الراء ـ بمعنى : لا بُدَّ.
وَفَعَلٌ وَفُعْلٌ أخوان كَرَشَدٍ، وَرُشْدٍ، وعَدَمٍ، وَعُدْمٍ ".
وشأنه على مذهب البصريين أن يجعل رداً على دعاه إليه قَوْمُهُ.
و " جَرَمَ " فَعَلٌ بمعنى حَق، و " أَنَّ " مع ما في حيّزها فاعله، أي وَجَبَ بُطْلانُ دَعْوَتِهِ، أو بمعنى كَسَبَ من قوله تعالى :﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ﴾ [المائدة : ٢] أي بسبب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته بمعنى أنه ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته.
٥٩


الصفحة التالية
Icon