المضاف إلى هاتين الصفتين لا بدَّ وأن يكون دالاً على أعظم وجوه الرحمة والنعمة والأمر كذلك ؛ لأن الخَلْقَ في هذا العالم كالمرضى والمُحتاجين، والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية، وعلى ما يحتاج إليه الأحصاء من الأغذية، فكان أعظم النعم من الله تعالى على أهل هذا العالم إنزال القرآن عليهم.
وثالثها : كونه كتاباً، وتقدم أن هذا الاسم مشتق من الكَتْبِ وهو الجمع، فسمي كتاباً لأنه جمع فيه عِلْمَ الأولين والآخرين.
ورابعها : قوله فصلت آياته، أي ميزت وجعلت تفاصيل في معانٍ مختلفةٍ فبعضها وصف ذات الله، وصفاتِ التنزيه والتقديس وشرح كمال عمله وقدرته ورحمته وعجائب أصول خلقه من السموات والكواكب وتعاقب الليل والنهار، وعجائب أحوال النبات والحيوان وبعضها في المواعظ والنصائح، وبعضها في تهذيب الأخلاق ورياضة النفس، وبعضها في قَصَص الأنبياء وتواريخ الماضين، وبالجملة فمن أنصف علم أنه ليس في بدء الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم والمختلفة مثل ما في القرآن.
وخامسها : قوله : قرآناً وقد سبق توجيه هذا الاسم.
وسادسها : قوله عربياً أي إنما نزل بلغة العرب، ويؤكده قوله تعالى :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ [إبراهيم : ٥].
وسابعها : قوله " لقوم يعلمون " أي جعلناه قرآناً لأَجْلِ أنا أنزلناه على قوم عربٍ بلغتهم ليفهموا منه المراد.
وثامنها وتاسعها : قوله " بشيراً نذيرا " يجوز أن يكونا نعتين لقرآناً، وأن يكونا حالين ؛ إما من كتاب وإما من آياته، وإما من الضمير المنوي في قرآناً.
وقرأ زيد بن علي برفعهما على النعت لكتاب، أو على خبر ابتداء مضمر، أي هو بشير ونذير، ومعناه بشيراً للمطيعين بالثواب ونذيراً للمجرمين بالعقاب.
قال ابن الخطيب : والحق أن القرآن بشارة ونِذَارة إلا أنه أطلق اسم الفاعل عليه للتنبيه على كونه كاملاً في هذه الصفة كما يقال : شعر شاعر وكلام قائل.
٩٨
عاشرها : كونهم معرضين عنه لا يسمعونه ولا يتلفتون إليه، فهذه الصفات العشرة التي وصف الله تعالى القرآن بها.
فصل احتج القائلون بخلق القرآن بهذه الآية من وجوه : الأول : أنه وصف القرآن بكونه مُنَزَّلاً وتَنْزِيلاً، والمنزَّلُ والتنزيلُ مشعر بالتغيير من حال إلى حال فوجب أن يكونَ مخلوقاً.
الثاني : أن التنزيل مصدر، والمصدر هو المفعول المطلق باتفاق النحويين.
الثالث : أن المراد بالكتابة إما الكتابة، وهي المصدر الذي هو المفعول المطلق وإما المكتوب الذي هو المفعول.
الرابع : أن قوله :" فصلت آياته " (بدل) على أن متصرفاً يتصرف فيه بالتفصيل وذلك لا يليق بالقديم.
الخامس : أنه إنما سمي قرآناً، لأنه قُرِنَ بعض أجزائه ببعض وذلك يدل على كونه مفعول فاعل ومجعول جاعل.
السادس : وصفه بكونه " عربياً "، وإنما صحت هذه النسبة لأن هذه الألفاظ إنما دلت على هذه المعاني بحسب وضع العرب، واصطلاحاتهم، وما حصل بِجَعْلِ جاعل وفِعْلِ فاعل فلا بد وأن يكون مُحْدَثاً ومَخْلُوقاً.
والجواب : أ، كل هذه الوجوه المذكورة عائدة إلى اللغات وإلى الحروف والكلمات وهي حادثة.
فصل ذهب قومٌ إلى أن القرآن من سائر اللغات كالإستبرق والسِّجيل فإنهما فارسيان والمِشْكَاة فإنها حبشية، والقِسْطَاسِ، فإنه من لغة الروم، وهذا فاسد لقوله
٩٩