فصل روي أن أبا جهل ـ لعنه الله ـ مقال في ملأ من قريش : التبس علينا أمرُ محمد، فلو التمستم لنا رجلاً عالماً بالشعر ولاسحر والكهانةِ وكلَّمَهُ ثم أتانا من أمره، فقال عُيينةُ بْنُ حصن : والله لقد علمتُ الشعر والسحر والكهانة، وعلمُ من ذلك علماً ولا يخفى عليَّ، فأتاه، فقال يا محمدُ : أنت خيرٌ أم هاشم ؟ أتت خير أم عبدالمطلب ؟ أ، ت خبر أم عبدالله ؟ فَلِمَ تَشْتِمُ آلهتنا وتضلِّلُ آباءنا ؟ فإ، كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواءَ فكنت رئيسنا، وإن أردت الباءة زوَّجناك أَعزَّ نسوة تختارُوهُنَّ من أيذِ بنات قريش شئت، وإن كنت تريد المال جمعنا لك ما تستعين به على ذلك، ورسو الله ـ ﷺ ـ ساكت، فملا فرغ، قال رسول الله ـ ﷺ ـ أَفرغت ؟ قال : نعم.
قال : فاسمع ثم إنَّ النبي ـ ﷺ ـ تَعَوَّذَ ثم قرأ :" بسم الله الرحمن الرحيم " حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً إلى أن بلغ قوله : فإن أَعْرَََضُوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسك عُيينةُ على فِيهِ وناشدهُ بالرحم إلا ما سكت، ثم رجع إلى أهله، فلم يخرج إلى قريش، فلما احتبس عنهم قالوا : ما نرى عيينة إلا قد صَبَأ فانطلقوا إليه وقالوا : يا عيينة، ما حَبَسَكَ عنا، إلا أنك قد صبأت إلى محمد، وأعجبك طعامُه، فإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب وأقسم لا يكلم محمداً أبداً، ثم قال :" واللهُ لقد علمتم أني من أكثر قريش مالاً، ولكني قصصت عليه القصة فأجابني بشيء والله ماهو بشعرٍ ولا كهانةٍ ولا سحر، وقرأ السورة ولما بلغ صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه، وناشدته بالرحم حتى سكت، لقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخِفت أن ينزل العذاب.
قوله تعالى :﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُواْ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ قيل : هذا الاستكبار إظهار العُجِبِ والتِّه وعدم الالتفات إلى الغير.
وقيل : الاستعلاء على الناس واستخدامهم.
ثم ذكر تعالى سبب ذلك الاستكبار وهو قولهم :﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ وكانوا ذوي أجسام طوال، وقوة شديدة.
ثم إنه تعالى ذكر ما يدل على أنهم لا يجوز لهم أن يغتروا بشدة قوتهم فقال :﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ وإن كانت الزيادة في القوة توجب كون الناقص في طاعة الكامل فيجب عليهم الانقياد لله تعالى والخضوع لأوامره ونواهيه.
فإن قيل : صيغة أفعل التفضيل إنما تجري بين شيئين لأحدهما نسبة إلى الآخر لكن قدرة العبد متناهية، وقدرة الله لا نهاية لها والمتناهي لا نسبة لها إلى غير المتناهي فما معنى قوله :" أنَّ الله أَشَدَّ منْهُمْ قوة " ؟.
١١٩
فالجواب : هذا ورد على قانون قولنا : الله أكبر، ثم قال :﴿وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ والمعنى أنهم يعرفون أنها حق ولكنهم يجحدونها كما يجحد المُودَعُ الوَدِيعةَ.
واعلم أنَّ نظم الكلام أن يقال : أما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وكانوا بآياتنا يجحدون، وأما قولهم :﴿مَنْ أشد من اقوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة﴾ اعتراض وقع في البين لتقرير الداعي إلى الاستكبار.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ١١٥
قوله :﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً﴾ الصَّرصرُ : الريح الشديدة، فقيل : هي الباردة من الصَّرِّ وهو البرد، وقيل : هي الشدية السُّمُوم، وقيلأ : المُصوِّتةُ من صرَّ البابُ أي سُمِعَ صريرُهُ.
والصَّرَّةٌ : الصَّيحة ومنه :﴿فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ﴾ [الذاريات : ٢٩] قال ابن قتيبة " صَرْصَرٌ " يجوز أن يكون الصَّرِّ وهو البرد، وأن يكون من صرَّ البابُ، وأن يكون من الصََّرَّة ومنه :﴿فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ﴾ [الذاريات : ٢٩].
قوال الراغب : صَرْصرٌ لفظه من الصّر وذلك يرجع إلى الشد لما في البرودة من التعقيد.
قوله : في أيَّام نحساتٍ قرأ الكوفيون وابنُ عامر بكسر الحاء والباقون بسكونها.
١٢٠


الصفحة التالية
Icon