﴿فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾ قال مجاهد : يربط على قلبك بالصبر حتى لا يشقَّ عليك أذاهم وقولهم : إنه مفتر كذابٌ، وقال قتادة : يعني يطبع على قبلك فينسيك القرآن وما آتاك فأخبرهم أنه لو افترى على الله كذباً لفعل به، وما أخبر في هذه الآية فإنه لا يجترىء على افتراء الكذب إلاّ من كان في هذه الحالة والمقصود من هذا الكلام المبالغة في تقرير الاستبعاد، ومثاله : أن ينسب رجل بعض الأمناء إلى الخيانة فيقول الأمين : لعل الله أعمى قَلْبي، وهو لا يريد إثبات الخِذلان ولا عَمَى القلب لنفسه وإنما يريد استبعاد صدق الله تعالى الخيانة عنه.
قوله تعالى :﴿وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ﴾ هذا مستأنف غير داخل في جزاء الشرط ؛ لأنه تعالى يمحو الباطل مطلقاً، وسقطت الواو منه لفظاً لالتقاء السكانين في الدَّرج، وخطَّا حملاً للخطِّ على اللفظ كما كتبوا :﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ [العلق : ١٨] عليه، ولكن ينبغي أن لا يجوز الوقف على هذه الآية لأنه إن وقف عليه بالأصل ـ هو الواو ـ خالفنا خط المصحف وإن وقف عليه بغيرها موافقاً للرسل خالفنا الأصل.
وتقدَّم بحث مثل هذا.
وقد منع مكيٌّ الوقف على نحو :﴿وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ﴾ [غافر : ٩].
وقال الكسائي : فيه تقديم وتأخير مجازه والله يمح الباطل فهو في محل رفع، ولكن حذفت منه الواو في المصحف حملاً على اللفظ كما حذفت من قوله :﴿وَيَدْعُ الإِنْسَانُ﴾ [الإسراء : ١١] ﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ [العلق : ١٨].
فصل أخبر تعالى أن ما يقولونه باطل يمحوه الله " ويُحِقُّ الحَقَّ " أي الإسلام بكلماته، أي بما أنزل الله تعالى من كتاب، وقد فعل الله ذلك فمحى باطلهم، وأعلى كلمة الإسلام " إنَّهُ عَلِيم " بما في صدرك وصدورهم، قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : لما نزلت ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ وقع في قلوب قوم منها شيء وقالوا : يريد أن يحثنا على أقاربه من بعده، فنزل جبريل فأخبره أنه اتهموه فأنزل الله هذه الآية فقال القوم يا رسول الله :(فـ) إنا نشهد أنك صادف فنزل :﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ قال ابن عباس : يريد أولياءه وأهل طاعته.
قال الزمخشري : يقال : قَبِلْتُ مِنْهُ الشيء وقَبِلْتُهُ عَنْهُ.
١٩٣

فصل قيل : التوبة بترك المعاصي نية وفعلاً، والإقبال على الطاعة نيَّةً وفعلاً.


وقال سهل ابن عبدالله : التوبة الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال الممدوحة.
وقيل : الندم على الماضي والترك في الحال والعزم على أن لا يعود إليه في المستقبل روى جابر أن أعرابياً دخل مسجد رسول الله ـ ﷺ ـ فقال : اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، وكبَّر، فلما فرغ من صلاته ـ قال عليٌّ ـ رضي الله تعالى عنه : يا هذا إن سرعة اللسان بالاستغفار توبه الكذابين، فقال ياأمير المؤمنين (وما) التوبة ؟ فقال : اسم يقع على ستة أشياء على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفريضة الإعادى ورد المظالم وإدامة النفس في الطاعهة كما ربتيها في المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل ضحك ضحكته.
قالت المعتزلة : يجب على الله قبول التوبة، وقال أهل السنة : لا يجب على الله تعالى، وكل ما يقبله فهو كرم وفضل، واحتجوا بهذه الآية فقالوا : إنه تعالى تمدح بقبول التوبة، ولو كان ذلك القبول واجباً لما حصل المدح العظيم، ألا ترى أنه من مدح نفسه بأن لا يضرب الناس ظلماً كان ذلك مدحاً.
قوله :﴿وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾ إما أن يكون المراد منه أن يعفو عن الكبائر بعد التوبة، مأو المراد أن يعفو عن الصغائر أو المراد : إن يعفو عن الكبائر قبل التوبة.
والأول باطل وإلا صار قوله :﴿وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾ عين قوله :﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ والتكرار خلاف الأصل).
والثاني أيضاً باطل ؛ لأن ذلك واجبٌ، وأداء الواجب لا يمدح به فبقي القسم الثالث فيكون المعنى أنه تارة يعفو بواسطة قبول التوبة، وتارة يعفو ابتداء من غير توبة.

فصل روى أنس ـ (رضي الله عنه) ـ قال : قال رسول الله ـ ﷺ ـ :" للهُ أشَدُّ فَرَحاً


١٩٤


الصفحة التالية
Icon