الذنوب، بل حصول المصائب (للصالحين) والمتقين أكثر منه للمذنبين، ولهذا قال ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ :" خُصَّ البَلاَءُ بالأَنْبِيَاءِ ثُمَّ الأَمْثَل فالأَمْثَلِ ".
الثالث : أن الدنيا دار تكليف، فلو حصل الجزاء فيها لكانت دار تكليف ودار جزاء معاً وهو محالٌ.
وقال آخرون : هذه المصائب قد تكون أَجزيةً على ذنوب متقدمة لهذه الآية، ولما روى الحسن قال : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله ـ ﷺ ـ " والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ خَدْشِ عُودٍ ولا عَثْرةِ قَدَمٍ وَلاَ اخْتِلاَجِ عِرْقٍ إلاَّ بِذَنْبٍ وَمَا يَعْفُو اللهُ عَنْهُ أَكْثَرُ ".
قال علي بن أبي طالب :" أَلا أُخْبِرُكُمْ بأَفْضَلِ آيَةَ في كِتَابِ اللهِ حَدَّثَنا بِهَا رَسُولُ اللهِ ـ ﷺ ـ :" وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فبمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوعَنْ كَثِيرٍ " (قال) : وَسَأفسِّرُها لَكَ يَا عَلِيُّ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مَرَضٍ أَوْ عُقُوبَةٍ أَوْ بَلاَءٍ في الدُّنْيَا فبمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ واللهُ عَزَّ وجَلَّ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُثْنِيَ عَلَيْكُمْ العُقُوبَةَ في الآخِرَةِ، وَمَا عَفَا اللهُ عَنْهُ في الدُّنْيَا، فَالله أَحْلَمُ مِنْ أنْ يَعُودَ بعد عَفْوِهِ.
وتمسكوا أيضاً بقوله تعالى بعد هذه الآية :﴿أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا﴾ " وذلك تصريح بأن ذلك الاهلاك بسبب كسبهم.
وأجاب الأولون بأن حصول هذه المصائب يكون من باب الأمتحان في التكليف، لا من باب العقوبات، كما في حق الإنبياء والأولياء.
ويحمل قوله :﴿بما كسبت أيديكم﴾ على أن الأصلح عند إتيانكم بذلك الكسب إنزال هذه المصائب عليكم.
فصل هذه الآية تقتضي إضافة الكسب إلى اليد، والكسب لا يكون بل بالقدرة القائمة باليد فوجب أن يكون المراد من لفظ اليد هاهنا القدرة، وإذا كان هذا المجاز مشهوراً مستعملاً كان لفظ اليد الوارد في حق الله تعالى يجب حمله على القدرة تنزيهاً لله تعالى عن الأعضاء.
قوله :﴿وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ﴾ أي قد يترك الكثير بفضله ورحمته قال الواحدي ـ بعد أن روى حديث عليٍّ المتنقدم ـ : وهذه أرجى آية في كتاب الله ؛ لأن الله تعالى جعل ذنوب
٢٠١
المؤمنين صنفين، صنف كفَّر عنهم بالمصائب، وصنفٌ عَفَا عنه في الدنيا، وهو كَرَمٌ لا يرجع في عفوه فهذه سنة الله مع المؤمنين.
وأما الكافر، فإنه لا يعجل له عقوبة ذنبه حتى يوافي (رَبَّهُ) يوم القيامة.
ثم قال :﴿وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ أي بفائتين " في الأرض " هرباً، أي لا تُعْجِزونَنِي حيث ما كنتم و لات َسْبِقُونِي ﴿وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ والمراد به من يعبد الأصنام، بين أنه لا فائدة فيها ألبتة بل النّصير هو الله تعالى، فلا جرم هو الذي يحْسُنُ عِبَادَتُهُ.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ١٩٨
قوله تعالى :﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ﴾ قرا نافعٌ وأبو عمرو " الجواري " بيا في الوصل.
وأما الوقف فإثباتها على الأصل وحذفها للتخفيف، وهي السفن، وأحدثها جاريةٌ، وهي السائرة في البحر.
فإن قيل : الصفة متى لم تكن خاصةً بموصوفها امتنع حذف الموصوف، لا تقول : مررت بماشٍ ؛ لأن المَشْيَ عامٌّ، وتقول : مررت بمهندس وكاتبٍ، والجري ليس من الصفات الخاصة فما وجه ذلك ؟ فالجواب : أن قوله :" في البحر " قرينة دالة على الموصوف، ويجوز أن تكون هذه صفة غالبة كالأبطح والأبرق، فوليت العوامل دون موصوفها.
و " في البَحْرِ " متعلق " بالجواري "، إذا لم يجر مجرى الجوامد، فإن جرى مجراه كان حالاً منه، وكذا قوله :" كالأَعْلاَمِ " وهي الجبال قالت الخَنْسَاءُ : ٤٣٨٣ـ وَإِنَّ صَخْراً لتَأْتَمُّ الهُدَاةُ بِهِ
كَأَنَّهُ عَلَمٌ في رَأْسِهِ نَارُ
٢٠٢


الصفحة التالية
Icon