قوله تعالى :﴿فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الشورى : ٣٦] الآية لما ذكر دلائل التوحيد أردفها بالتنفير عن الدنيا وتحقير شأنها ؛ لأن المانع من قبول الدليل هو الرغبة في الدنيا، فقال :" وَمَا أوتِيتُمْ " " ما " شرطية، وهي في محل نصب مفعولاً ثانياً " لأوتِيتُمْ " والأول هو ضمير المخاطبين قام مقام الفاعل، وإنما قدم الثاني ؛ لأن له صدر الكلام، وقوله :" مِنْ شَيْءٍ " بيان لما الشرطية لما فيها من الإيهام.
وقوله " فَمَتَاعُ " الفاء جواب الشرط و " متاع " خبر مبتدأ مضمر أي فهو متاع، وقوله " فَمَتَاعُ " الفاء جواب الشرط و " متاع " خبر خبرها، و " لِلَّذِينَ " يتعلق " بَأبْقَى ".
٢٠٨
فصل المعنى : وما أوتيتم من شيء من رياش الدنيا فمتاع الحياة الدنيا ليس من زاد المعاد، وسماه متاعاً تنبيهاً على قلته وحقارته وجعله من متاع الدنيا تنبيهاً على انقراضه، وأما الآخرة فإنها خير وأبقى والباقي خير من الخَسِيس الفاني.
ثم بين أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان موصوفاً بصفات منها أن يكون من المؤمنين فقال ﴿لِلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾.
وهذا يدل على من زعم أن الطاعةت توجب اثواب ؛ لأنه متكل على عمل نفسه لا على الله فلا يدخل تحت الآية.
الصفة الثانية : قوله :" وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ " نسقٌ الى " الذين " الأولى.
وقال أبو البقاء :" الذين يجتنبون " في موضع جر بدلاً من " الَّذِينَ آمَنُوا " ويجوز أن يكون في محل نصب بإضمار " أعْنِي " أو في موضع رفع على تقدير " هُمْ " وهذا وَهَمٌ منه في التلاوة كأنه اعتقد أن القرآن : وعلى ربهم يتوكلون الذين يجتنبون فبنى عليه الثَّلاثة الأوجه وهو بناء فاسد.
قوله :" كَبَائِرَ الإِثْمِ " قرأ الأخوان هنا وفي النجم :" كَبِيرَ الإِثْمِ : بالإفراد، والباقون كَبَائِرَ بالجمع في السورتين، والمفرد هنا في معنى الجمع والرسم الكريم يحتمل القراءتين.

فصل تقدم معنى كبائر الإثم في سورة النساء.


قال ابن الخطيب : نقل الزمخشري عن ابن عباس : أن كبير الإثم هو الشرك، وهو عندي ضعيف لأن شرط الإيمان مذكور وهو يغني عن عدم الشرك، وقيل : كبائر الإثم ما يتعلق بالبدع واستخراج الشبهات.
وأما
٢٠٩
الفواحش فقال السدي : يعني الزنا.
وقال مقاتل : ما يوجب الوحدَّ.
قوله :﴿وَإِذَا مَا غَضِبُواْ﴾ : إذا " منصوبة بيغفرون، و " يَغْفِرُونَ " خير لهم والجملة بأسرها عطف على الصلة وهي " يجتنبون "، والتقدير : والذين يجتنبون وهم يغفرون عطف اسمية على فعلية.
ويجوز أن يكون " هم " توكيد للفاعل في قوله :" غضبوا "، وعلى هذا فيغفرون جواب الشرط.
وقال أبو البقاء : هم مبتدأ، ويغفرون الخبر، والجملة جواب إذا.
قال شهاب الدين : وهذا غير صحيح، لأنه لو كان جواباً لإذا لاقترن بالفاء، تقول : إذا جاء زيدٌ فعمرو منطلق، ولا يجوز : عمرو ينطلق.
وقيل :(هم) مرفوع بفعل مقدر يفسره " يغفرون " بعده ولما حذف الفعل انفصل الضمير.
ولم يستبعده أبو حيان، وقال : ينبغي أن يجوز ذلك في مذهب سيبويه، لأنه أجازه في الأداة الجازمة تقول : إنْ يَنْطَلِقْ زَيْدٌ ينطلق تقديره : ينطلق زيد ينطلق فينطلق واقع جواباً ومع ذلك فسَّر الفعل فكذلك هذا.
وأيضاً فذلك جائز في فعل الشرط بعدها نحو : إذا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ فليجز في جوابها أيضاً.
فصل وإذا ما غضبوا هم يغفرون يَحْلِمُونَ ويَكْظِمُونَ الغيظ، وخص الغضب بلفظ الغفران ؛ لأن الغضب على طبع النار واستيلاؤه شديد ومقاومته صعبة، فلهذا خصه الله تعالى بهذا اللفظ.
قوله (تعالى) :﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ﴾ أي أجابوه إلى ما دعاهم إليه من طاعته.
وقال ابن الخطيب : المراد منه تمام الانقياد.
فإن قيل : أليس أنه لما حصل الإيمان فيه شرطاً فقد دخل في الإيمان إجابة الله ؟ ! والجواب : أن يحصل هذا على الرضا بضاء الله من صميم القلب وأن لا يكون في
٢١٠


الصفحة التالية
Icon