فصل السَّفَرُ إما أن يكون في البحر، وإما أن يكون في البرِّ، فأما سفر البحر فعلى السفينة، وأما سفر البر فعلى الأنعام.
فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل على ظهورها ؟ فالجواب : من وجوه : الأول : قال أبو عبيدة التذكير لقوله :" مَا تَرْكَبُوَ " و التقدير : ما تركبونه، فالضمير يعود على لفظ " ما " فلذلك أَفْرَدَهُ.
الثاني : قال الفراء : أضاف الظهر إلى واحد فيه معنى الجمع بمنزلة الجنس، فلذلك ذَكَّرَهُ، وجمع الظهور باعتبار معناها.
الثالث : أن التأنيث فيها ليس حقيقاً، فجاز أن يختلف اللفظ فيه، كما يقال : عِنْدِي مِنَ النِّسَاء مَنْ يُوَافِقُكَ.
قوله :" لِتَسْتَوُوا " يجوز أن تكون هذه لام العلة، وهو الظاهر وأن تكون للصيرورة فتتعتلق في كليهما بـ " جَعَل ".
وجوز ابن عطية : أن تكون للأمر، وفيه بعد، لقلة دخولها على أمر المخاطب.
وقُرىءَ شاذاً : فَلْتَفْرَحُوا وفي الحديث :" لِتَأْخُذُوا مَصَافَّكُمْ " وقال : ٤٣٩٢ـ لِتَقُمْ أَنْتَ يَا ابْنَ خَيْرِ قُرَيْشٍ
فَتَقْضِي حَوَائِجَ المُسْلِمِينَا
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٣٣
٢٣٦
نص النحويون على قلتها عدا أَبَا القَاشِم الزَّجَّاجِيِّ، فإنه جعلها لغة جيدة.
قوله :﴿ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ﴾ أي تذكرونها في قلوبكم، وذلك الذكر هو أن يَعْرِف أن الله تعالى خلق البحر وخلق الرياح، وخلق جُرْمَ السفينة على وجه يُمْكِنُ الإنسان من تصريف هذه السفينة إلى أي جانب شاء، فإذا تذكر أن خلق البحر، وخلق الرياح، وخلق السفينة على هذه الوجوه القابلة لتصرف الإنسان ولتحريكاته، إنما هو من تدبير الحيكم العليم القدير، عرف أن ذلك نعمة من الله تعالى، فيَحْمِلُهُ ذلك على الانقياد لطاعة الله تعالى، وعلى الاشتغال بالشكر، لنعم الله التي نهاية لها.
قوله :﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَـذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ مطيقين وقيل : ضابطين.
واعلم أنه تعالى عين ذكراً لركوب السفينة والدابة، وهو قوله :﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَـاذَا﴾ وذكر دخول المنازل :﴿رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ﴾ [المؤمنون : ٢٩] وتحقيقه أن الدابة المركوبة لا بدّ أن تكون أكثرَ قوة من الإنسان بكثير، وليس لها عقل يهديها إلى طاعة الإنسان، ولكنه تعالى خلق تلك البهيمة على وجوه مخصوصة في خلقها الظاهر، وخلقها الباطن، فحصل منها هذا لانتفاع.
أما خَلْقُها الظاهر، فلأنها تَمْشِي على أربَعٍ، وكان ظهرها يحسن لاستقرار الإنسان وأما خلقها الباطن فلأنها مع قوتها الشديدة قد صيّرها الله تعالى مُنْقَادةً للإنسان، ومسخّرة له، فَإذا تأمل الإنسان في هذه العجائب عَظُمَ تعجبه من تلك القدرة، والحكمة التي لا نِهاية لها، فلا بدّ وأن يقول : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين.
قوله :" (لَهُ) مُقِرْنِينَ "، " له " متعلق " بمقرنين "، وقدم الفواصل.
والمُقْرِنُ : المُطيقُ للشيء الضابط له من : أَقْرَنَهُ : أي أَطَاقَهُ.
قال الواحدي : كأن اشتقاقه من قولك : صِرْتُ له قِرْناً، ومعنى قِرْن فُلاَنٍ، أي مثلُهُ في الشِّدة.
وقال أبو عبيدة : قِرْنٌ لفلانٍ أي ضابط له.
والقَرْنُ الحَبْلُ، وقال ابن هَرْمَةَ :
٢٣٧
٤٣٩٣ـ وَأقْرَنْتُ مَا حَمَّلِتْنِي وَلَقَلَّمَا
يُطَاقُ احْتِمَالُ الصَّدِّ يَا دَعْدُ والهَجْرُ
وقال عمرو بن معد يكرب : ٤٣٩٤ـ لَقَدْ عَلِمَ القَبَائِلُ مَا عُقَيْلٌ
لَنَا فِي النَّائِبَاتِ بِمُقْرِنِينَا
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٣٣
وحقيقة أقْرَنَهُ : وجده قَرِينهُ ؛ لأن القوي لا يكون قرينه الضعيف، قال (ـ رحمه الله ـ) : ٤٣٩٥ـ وابنُ اللَّبُون إذَا مَا لُزَّ فِي قَرَنٍ
لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَنَاعِيسِ
وقرىء : مُقْتَرِنِينَ بالتاء قبل الراء.
فصل ومعنى الآية ليس عندنا من القوة والطاعة أن نقرن هذه الدابة والفلك، وأن نضبطها فسُبْحانَ مَنْ سَخَّر لنا هذا بقدرته وحكمته، روى الزمخشريّ عن النبي ـ ﷺ ـ " أنه كان إذا وضع رِجْلَهُ في الركاب، قال : بِسْم اللهِ، فإذا استوى على الدَّابَّةِ قال : الحَمْدُ لله على كل حال، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين.
وَإنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ ".
وروى عن عليٍّ أيضاً مثله وزاد : ثم حمَّد ثلاثاً، وكبَّر ثلاثاً، ثم قال : لا إله إلا الله ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك، فقيل : مما تضحك يا أمير المؤمنين ؟ قال :" رأيت رسول الله ـ ﷺ ـ فَعَلَ ما فعلتُ، فقلنا : ما يضحكك يا نبيَّ
٢٣٨


الصفحة التالية
Icon