فلما حكى هذه الأقاويل بعضها على إثر بعض وثبت أن القولين الأولين كفر محض، فكذلك هذا القول الثالث يجب أن يكون كفراً وأجاب الواحدي في البسيط بوجهين : الأول : ما ذكره الزجاج وهو أن قوله تعالى :﴿مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ﴾ عائد إلى قولهم : الملائكةُ بناتُ الله.
والثاني : أنهم أرادوا بقولهم : لَوْ شَاءَ الرحمن ما عبدناهم أنه أمرنا بذلك ورضي بذلك فقررنا عليه فأنكر عليهم ذلك.
قال ابن الخطيب : وهذان الوجهان عندي ضعيفان، أما الأول، فلأنه تعالى حكى عن القوم قولين باطلين، وبين وجه بُطْلاَنهما، ثم حكى بعده وجهاً ثالثاً في مسألة أجنبية عن المسألتين الأوليين، ثم حكى البطلان، والوعيد، فصرف هذا الإبطال الذي ذكره عنه إلى كلام متقدم وأجنبي عنه في غاية البعد.
وأما الوجه الثاني : فهو أيضاً ضعيف ؛ لأن قوله :﴿لو شاء الرحمن ما عبدناهم﴾ ليس فيه بيان متعلق خلاف تلك المشيئة والإجمال خلاف الدليل، فوجب أن يكون التقدير : لو شاء الله أن نعبدَهم ما عبدناهم.
وكلمة " لو " تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فهذا يدل على أنه لم توجد مشيئة لعدم معبادتهم، وهذا غير مذهب المجبرة.
والإبطال والإفساد يرجع إلى فساد هذا المعنى.
ومن الناس من أجاب عن هذا الاستدلال بأن قال : إنهم لما ذكروا ذلك الكلام على سبيل الاستهزاء والسخرية، فلهذا السبب استوجبوا الظن والذم.
و أجاب الزمخشري عنه من وجهين : الأول : أنه ليس في اللفظ ما يدل على أنهم قالوه مستهزئين، وادعاء ما لا دليل عليه باطل.
الثاني : أنه تعالى حكى فيهم ثلاثة أشياء وهي أنهم جعلوا له من عباده جزءاً، وأنهم جعلوا الملائكة إناثاً، وأنهم قالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم فلو قلنا بأنه إنما جاء الذم على القول الثالث لأنهم قالوه على ظريق الهُزْء لا على سبيل الجدّ وجب أن يكون الحال
٢٤٧
في الحِكَاية للقولين كذلك فيلزم أنهم لو نطقوا بتلك الأشياء على سبيل الجد أن يكونوا محقين ومعلوم أنه كفر.
وأما القول بأن الظن في القولين الأولين إنما يوجد على بعض ذلك القول وبعض القول الثالث لا على نفسه، بل على إيراده على سبيل الاستهزاء فهذا يوجب تشويش النظم، وأنهم لا يجوز في كلام الله تعالى.
قال ابن الخطيب : والجواب الحق عندي عن هذا الحكم هو ما ذكرنا في سورة الأنعام وهو أن القوم لما ذكروا هذا الكلام، استدلوا بمشيئة الله تعالى للكفر على أنه لا يجوز ورود الأمر بالإيمان، فاعتقدوا أن الأمر والإرادة يجب كونهما مُتَطَابِقيْنِ وعندنا أن هذا باطل فالقوم لم يستحقوا الذم لمجرد قولهم : إن الله يريد الكفر من الكافر، بل لأجل أنهم قالوا : لما أراد الكفر من الكافر وجب أن يقبح منه أمر الكافر بالإيمان، فإذا صرفنا الذمَّ إلى هذا سقط استدلال المعتزلة بهذه الآية.
وتمام التقرير موجود في سورة الأنعام.
قوله :﴿مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ﴾ فيما يقولون ﴿إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ ما هم إلا كاذبون في قولهم : إن الله رَضِيَ عَنَّا بعبادتنا.
وقيل : إنْ هُمْ إلا يخرصون في قولهم : الملائكة إناث وهم بنات الله.
قوله :﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ﴾ أي من قبل القرآن، أو الرسول بأن يعبد غير الله ﴿فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ﴾ يعني أن القول الباطل الذي حكاه الله عنهم عرفوا صحته بالعقل أو بالنقل ؟ أما إثباته بالعقل فهو أيضاً باطل، لقوله تعالى :﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ﴾ والمعنى أنهم وجدوا ذلك الباطل في كتاب منزل قبل القرآن، حتى جاز لهم أن يتمسكوا به ؟ فذكر هذا في مَعْرِض الإنكار.
قوله :﴿بَلْ قَالُوا ااْ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾ والمقصود أنه تعالى لما بين أنه لا دليل على صحة قولهم ألبتة لا من العقل ولا من النقل، بين أنه ليس لهم حاملٌ يحمِلُهُم عليه إلا التقليد المحض.
ثم بين أن تمسك الجهال بالتقليد أمر كان حاصلاً من قديم الزمان فقال :﴿وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ
٢٤٨
مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾
، قوله : أمه العامة على ضم الهمزة بمعنى الطريقة والدين قال قَيْسُ بن الخَطيم : ٤٣٩٩ـ كُنَّا عَلَى أُمَّةِ آبَائِنَا
وَيَقْتَدِي بالأَوَّلِ الآخرُ
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٤٠
أي على طرقتهم، وقال آخر :
٤٤٠٠ـ هل يَسْتَوِي ذُو أمَّةٍ وَكَفُور


الصفحة التالية
Icon