وقال أبو البقاء : تَرْكاً كذلك، فجعله نعتاً للتَّرْك المحذوف، وعلى هذه الأوجه كلها يوقف على " كذلك "، ويبتدأ :" وَأَوْرَثْنَاهَا " (قَوْماً آخَرِينَ).
(وقال الزمخشري : الكاف منصوبة على معنى مثل ذلك الأخراج أخرجناهم منها، وأورثنا قَوْماً آخرين)، ليسوا منها يعني بني إسرائيل، فعلى هذا يكون :" وَأَوْرَثْنَاهَا " معطوفاً على تلك الجملة الناصبة للكاف فلا يجوز الوقف على " كَذَلِكَ " حِينئِذٍ.
قوله :﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ﴾ يجوز أن يكون استعارة، كقول الفرزدق : ٤٤٢٦ـ وَالشَّمْسُ طَالِعةٌ لَيْسَتْ بكَاسِفَةٍ
تَبْكِي عَلَيْكَ نُجُومَ اللَّيْلِ وَالقَمَرَا
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣١٨
وقال جرير : ٤٤٢٧ـ لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ
سُور المَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الخُشَّعُ
وقال النابغة : ٤٤٢٨ـ بَكَى حَارِثُ الجَوْلاَنِ مِنْ فَقْدِ رَبِّهِ
وَحَوْرَان مِنْهُ خَاشِعٌ مُتَضَائِلُِ
فصل روى أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ ﷺ ـ قال :" مَا مِنْ عَبْدٍ إلاَّ وَلَهُ فِي السَّمَاءِ بَابَانِ، بابٌ يَخْرُجُ مِنْهُ رِزْقَُه، وبَابٌ يَدْخُلُ مِنْهُ عَمَلُهُ.
فَإذَا مَاتَ وَفَقَدَاهُ بَكَيَا عَلَيْهِ "، وتَلاَ هذه الآية، وذلك لأنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملاً صالحاً فتبكي عليه، ولم يكن يصعد لهم إلى السماء كلامٌ طيب، ولا عمل صالح فتبكي عليهم.
وقيل : التقدير : فما بكت عليهم أهْلُ السماء والأرض، فحذف المضاف والمعنى : فما بكت عليه الملائكة، ولا المؤمنون بل كانوا لهلاكهم مسرورين.
٣٢٣
وقيلأ : إن العادة جرت بأن يقولوا في هلاك الرجل العظيم الشأنِ إنه أظلمت له الدنيا، وكسفت الشمس والقمر لأجله، وبكت السماء والريح والأرض.
يريدُونَ المبالغة في تعظيم تلك المصيبة لا نفس هذا الكتاب.
وقال الزمخشري : ذكر هذا على سبيل السخرية بهم يعني أنهم كانوا يستعظمون أنفسهم ويعتقدون أنهم لو ماتوا لبكت عليهم السماء والأرض، ولم يكونوا بهذا الحَدِّ، بل كانوا دون ذلك، فذكر هذا تهكماً بهم.
وقال عطاء : بكاء السماء حُمْرَةُ أطرافِهَا.
وقال السدي :: لما قتل الحسين بن علي ـ رضي الله عنهما ـ بكت عليه السماء وبكاؤها حُمْرَتُها ﴿وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ﴾ أي لما جاء وقت هلاكِهِهم لم ينظروا إلى وقت آخر لتوبةِ وتدارك تقصيرٍ.
قوله تعالى :﴿وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ وهو قتل الأبناء واستحياء النساء والتعب في العمل.
واعلم أن رفع الضرر مقدم على إيصال النفع، فبدأ تعالى ببيان رفع الضرر عنهم فقال :﴿وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾.
قوله :" من فرعون " فيه وجهان : أحدهما : أنه بدل من " العذاب "، إمَّا على حذف مضاف، أي من عَذَابِ فِرْعَوْنَ، وإما على المبالغة جعل نفس العذاب، فأبدله منه.
والثاني : أنه حال من العذاب تقديره : صادراً مِنْ فِرْعَوْنَ.
وقرأ عبدالله : مِنْ عَذَاب المُهِينِ، وهي من إضافة الموصوف لصفته، إذ الأصل : العذاب المهين كالقراءة المشهورة.
وقرأ ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ مَنْ فِرْعَوْنُ ؟ بفتح الميم " من " ورفع فرعون على الابتداء والخَبَر، وهو استفهام تحقير، كقولك : مَنْ أَنْتَ وَزَيْداً ؟ ثم بين حالة بالجملة بعد قوله :﴿إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ﴾.
والتقدير : هل تعرفون من هو في عُتُوه وشَيْطَنَته ؟ ثم عرف حاله بقوله :﴿إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ أي كان عالي الدرجة في طبقة المسرفين، ويجوز أن يكون المراد إنه كان عالياً كقوله :﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ﴾ [القصص : ٤] وكان أيضاً مسرفاً ومن إسرافه أنه كان على حقارته وخسته
٣٢٤
ادَّعى الإلهية.
ولما بين الله تعالى (أنه) كيف دفع عن بني إسرائيل الضرر، بين أنه كيف أوصل إليهم الخيرات فقال :﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ والمراد اخترنا مؤمني بني إسرائيل على عالَمِي زمانهم.
قوله :" على علم " متعلقة بمحذوف، لأ، ها حال من الفاعل في " اخترناهم " و " على العالمين "، متعلقة باخترناهم.
وفي عبارة أبي حيان : أنه لما اختلف مدلولهما جاز تعلقهما باخترنا، وأنشد على ذلك (الشاعر) (رحمقُ اللهِ عَلَيْهِ) : ٤٤٣٩ـ وَيَوْماً عَلَى ظَهْرِ الكَثِيبِ تَعَذَّرَتْ
عَلَيَّ وآلَتْ حَلْفَةً لَمْ تُحَلَّلِ
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣١٨