قوله : سواء محياهم ومماتهم داخل في الحسبة المنكرة السيئة، وهذا احتمال حسن، والأول جيِّد انتهى.
ولم يبين كيفية دخوله في الحسبان وكيفة أحد الوجهين الأخيرين إما البدل وإما الحالية كما عرفته.
وقرأ الأعمش " سواءً " نصباً محياهُمْ ومَمَاتَهُمْ.
بالنصب أيضاً، فأما سواء فمفعول ثان، أو حال كما تقدم.
وأما نصب محياهم ومماتهم ففيه وجهان : أحدهما : أن يكونا ظرفي زمان، وانتصبا على البدل من مفعول (نجعلهم) بدل اشتمال ويكون سواء على هذا هو المفعول الثاني، والتقدير : أنْ نَجْعَلَ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتَهُمْ (سَوَاءً).
والثاني : أن ينتصبا على الظرف الزماني، والعامل إما الجعل أو سواء، والتقدير أن نجعهلم في هذين الوقتين سواء أو نجعلهم مُسْتَويَيْنِ في هذين الوقتين.
قال الزمخشري مُقرراً لهذه الوجه : ومن قرأ بالنصب جعل " مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتَهُمْ " ظرفين كمقدم الحاجِّ وخُفُوقَ النَّجم.
قال أبو حيان : وتمثيله بخفوق النجم ليس بجيد، لأن خفوق مصدر ليس على مَفْعَل فهو في الحقيقة على حذف مضاف أي وقت خُفُوقِ (النَّجْم) بخلاف (محيا) و(ممات) و(مقدم) فإنها موضوعة على الاشتراك بين ثلاثة معان المصدرية والزمانية والمكماينة فإذا استعملت مصدراً كان ذلك بطريق الوضع، لا على حذف مضاف كخُفُوق، فإنه لا بد من حذف مضاف، لكونه موضوعاً للمصدرية وهذا أمر قريب، لأنه إنما أراد أنه وقع هذا اللفظ مراداً به الزمان.
أما كونه بطريق الأصالة أو الفرعية فلا يضر ذلك.
والضمير في " محياهم ومماتهم " يجوز أن يعود على القبيلين بمعنى أن مَحْيَا المؤمنين ومماتهم سواء عند الله في الكرامة، ومحيا المجترحين ومماتهم سواء في الإهانة عنده.
فَلَفَّ الكلام اتكالاً على ذهن السامع وفهمه.
ويجوز
٣٦٢
أن يعود على المجترحين فقط أخبر أن حالهم في الزمانين سواء.
وقال أبو البقاء : ويقرأ مَمَاتَهُمْ بالنصب أي محياهم ومماتهم.
والعامل : نجعل أو سواء.
وقيل : هو ظرف.
قال شهاب الدين : هو القول الأول بعينه.
(فصل) لما بين الله تعالى الفرق بين الظالمين وبين المتقين من الوجه المتقدم بين الفرق بينهما من وجه آخر فقال :﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ (و) كلمة وضعت للاستفهام عن شيء حال كونه معطوفاً على شيء آخر سواء كان ذلك المعطوف مذكوراً أو مضمراً.
والتقدير : هنا : أفيعلم المشركون هناأم يحسبون أنا نتولاهم كما نتولى المتقين.
والاجتراح : الاكتساب أي اكتسبوا المعاصي والكفر، ومنه الجوارح، وفلان جارحة أهله، أي كاسبهم.
قال تعالى :﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ﴾ [الأنعام : ٦٠].
وقال الكلبي : نزلت هذه الآية في عليِّ وحمزة، وأبي عُبيدة بن الجرَّاح ـ رضي الله عنهم ـ وفي ثلاثة من المشركين عُتْبَة، وشيبةً، والوليد بْنِ عُتْبَة قالوا للمؤمنين : والله ما أنتم على شيء فلو كان ما تقولونه حقًّا لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة كما كنا أفضل حالاص منكم في الدنيا.
فأنكر الله عليهم هذا الكلام، وبين أنه لا يمكن أن يكون حال المؤمن المطيع مساوياً لحال الكافر العاصي في درجات الثواب ومنازل السَّعَادات.
ثم قال :﴿سواءً محياهم ومماتُهُمْ﴾.
قال مجاهد عن ابن عباس : معناه أحسبوا أن حياتَهُم ومماتهم كحياة المؤمنين ؟ ! كلا فإنه يعيشون كافرين ويموتون كافرين والمؤمنون يعيشون مؤمنين ويموتون مؤمنين، فالمؤمن ما دام حياً في الدنيا فإنَّ وليَّه هو الله وأنصاره المؤمنون وحجة الله معه.
الكافر بالضِّدِّ منه، كما ذكره الله تعالى في قوله :" وإِنَّ الظَّالِمينَ بَعْضَهُمْ أَوْليَاءُ بَعْض " " واللهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ " والمؤمنون تتوفاهم الملائكة طَيِّبين يقولون : سلام عليكم أدْخلوا الجَنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ وأما الكفار فتتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم.
وأما في القيامة فقال تعالى :﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَـائِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾ [عبس : ٣٨ـ٤٢] وقيل : معنى الآية لا يستوون في الممات، كما استووا في الحياة، لأن المؤمن والكافر قد يستويان في
٣٦٣


الصفحة التالية
Icon