الثالث : أنهم ذكروها في معرض الاحتجاج بها.
واعلم أنهم احتجوا على إنكمار البعث بهذه الشبهة وهي شبهة ضعيفة جداً، لأنه ليس كل ما لايحصل في الحال يجب أن يمتنع حصوله فإن كان حصول كل واحد منا كان معدوماً من الأزل إلى الوقت الذي خلقنا فيه، ولو كان عدم الحصول في وقت معين يدل على امتناع ا لحصول لكان عندم حُصُولِنا في الأزل إلى وقت خلقنا يدل على امتناع حصولنا وذلك باطلٌ.
قوله تعالى :﴿قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾.
فإن قيل : هذا الكلام مذكوراً لأجل جواب من يقول :﴿ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدَّهر﴾ وهذا القائل ينكر وجود الإله ووجود القيامة فكيف يجوز إبطال كلامه بقوله :﴿اللَّهُ يُحْيِيكُمْ﴾ ؟ وهل هذا إلا إثْبَات الشيء بنفسه، وهو باطل ؟ ! فالجواب : أنه تعالى ذكر الاستدلال بحدوث الحيوان والإنسان على وجود الإله القادر الفاعل الحكيم مراراً فقوله : ههنا :﴿اللَّهُ يُحْيِيكُمْ﴾ إشارة إلى تلك الدلائل التي بينها وأوضحها مراراً، وليس المقصود من ذكر هذا الكلام إثبات الإله، بل المقصود منه التنبيه على ما هو الدليل الحق القاطع في نفس الأمر.
ولما ثبت أنّ الإحياء من الله، وثبت أن الإعادة مثل الإحياء ألأول، وثبت أن القادر على الشيء قادر على مثله ثبت أن الله تعالى قادر على الإعادة، وثبت أن الإعادة ممكنة في نفسها وثبت أن القادر الحيكم أخبر عن وقت وقوعها فوجب القطع بكونها حقاً.
وقوله تعالى :﴿ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ إشارة إلى ما تقدم في الآية المقتدمة، وهو أن كونه تعالى عادلاً خالقاً منزهاً عن الجَوْز والظلم يقتضي صحة البعث والقيامة، ثم قال :﴿وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ دلالة على حدوث الإنسان والحيوان والنبات على وجود الإله القادر الحكيم، ولا يعلمون أيضاً أنه تعالى لما كان قادراً على الإيجاد ابتداء، وجب أن يكون قادراً على الإعادة ثانياً.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٥٨
قوله تعالى :﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ...
﴾ الآية لما احتج بكونه قادراً على الإحياء في المرة الثانية في الآيات المتقدمة، عَمَّمَ الدليل فقال :﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ أي لله القدرة على جميع الكائنات سواء كانت في السموات أو في الأرض وإذا ثبت كونه تعالى قادراً على كُلِّ الممكنات وثبت أن حصول الحياة في هذه الدار ممكن إذ لو لم يكن ممكناً لما حصل في المرة الأولى، فيلزم من هاتين المقدمتين كونه تعالى قادراً على الإحياء في المرة الثانية.
ولما بين تعالى إمكانية القول بالحشر والنشر في هذين الطريقين، ذكر تفاصيل أحوالِ القيامة فأولها : قوله :﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاَعةُ﴾ في عامله وجهان : أحدهما : أنه " يخسر " و " يومئذ " بدل من " يَوْمَ تَقُومُ ".
والتنوين على هذا التنوين عوض عن جملة مقدرة ولم يتقدم من الجمل إلا " تقوم الساعة " فيصير التقدير : ويوم تقوم الساعة يومئذ تقوم الساعة.
وهذا الذي قدروه ليس فيه مزيد فائدة، فيكون بدلاً توكيديًّا.
والثاني : أن العامل فيه مقدر، قالوا لأن يوم القيامة حالة ثالثة ليست بالسَّماء ولا الأرض، لأنهما يتبدلان فكأنه قيل : ولله ملك السموات والأرض والملك يوم تقوم.
ويكون قوله :" يَوْمَئذٍ " معمولاً ليخصرُ، والجملة مستأنفة من حيثُ اللفظ، وإنْ كَانَ لها تعلق بما قبلها من حيثُ المَعْنَى.
فصل اعلم أنَّ الحَيَاةَ والعقل والصحة كأنها رأس مال، والتصرف فيها بطلب السعادة الأخروية مَجْرَى تصرف التاجر في ماله لطلب الربح والكفار قد اتعبوا أنفسهم في تصرفاتهم بالكفر والأباطيل فلم يجدوا في ذلك اليوم إلاَّ الحرمان والخِذلان ودخول النار وذلك في الحقيقة نهاية الخسران.
وثانيها : قوله :﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً﴾ الظاهر أن الرؤية بصرية فيكون " جاثية "
٣٦٩
حال، قال الليث : الجَثْوُ الجُلُوسُ على الركب الجِثِيّ بين يَدَي الحَاكِمِ، وذلك لأنها خائفة والمذنب مُسْتَوْفِزٌ.
وقيل : مجتمعة، ومنه الجُثْوَةُ للقبر لاجتماع الأحجار عليه، قال (الشاعر) (رحمه الله) : ٤٤٤٦ـ تَرَى جُثْوَتَيْنِ مِنْ تُرَابٍ عَلَيْهِمَا
صَفَائِحُ صُمٌّ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدِ
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٦٩