التقشف والزهد في الدنيا رجاء أن يكون ثوابهم في الآخرة أكمل، لأن هذه الآية لا تدل على المنع من التمتع، لأن هذه الآية وردت في حق الكافر، وإنما وبخ الله الكافر، لأنه تمتع بالدنيا ولم يؤد شكر المنعم بطاعته، والإيمان به، وأما المؤمن فإنه يؤدي بإيمانه شكر المنعم، فلا يبّخ بتمتعه، ويدل على ذلك قوله تعالى :﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [الأعراف : ٣٢] نعم لا يُنْكَر أنَّ الاحتراز عن التنعيم أولى ؛ لأن النفس إذا اعتادت التنعيم صعب عليها الاحتراز والانقياد وحينئذ ربّما حمله المَيْلُ إلى تلك الطيبات على فعل ما لا يَنْبَغِي.
روى عمر ـ (رضي الله عنه) ـ " قال : دخلت على رسول الله ـ ﷺ ـ فإذا هو على زُمّالٍ حَصِيرٍ قد أثر الزّمّال بجنبه فقلت يا رسول الله : ادعه الله أن يُوسِّعَ على أمتك، فإنَّ فارساً والرومَ قد وسع عليهم وهم يعبدون غير الله فقال : أولَئِكَ قوم قد عُجِّلَتْ لهم طيباتهم في الحياة الدنيا " وروت عائشة ـ (رضي الله عنها) ـ قالت : ما شبع آل محمد ـ ﷺ ـ من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قُبضَ رسول الله ـ ﷺ ـ وعنها قالت : لقد كان يأتي علينا الشَّهْرُ ما نُوقِدُ فيه ناراً ما هو إلا الماء والتمز.
وعن ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ قال : كان رسول الله ـ ﷺ ـ يَبِيتُ الليالي المتتابعةَ طاوياً وأهلُه لا يجدون شيئاً، وكان أكثر خبزهم خبزَ الشعير، والأحاديث فيه كثيرة.
قوله :﴿فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ أي العذاب الذي فيه ذُلّ وخِزْي.
وقرىء : عَذَاب الهَوَانِ ﴿بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ فعلّل تعالى ذلك العذاب بأمرين : أحدهما : الاستكبار والترفع وهو ذنب القلب.
والثاني : الفِسق، وهو ذَنْب الجوارح وقدم الأول على الثاني، لأن أحوال القلب أعظم وقعاً من أعمال الجوارح، ويمكن أن يكون المراد من الاستكبار أنهم يكتبرون عن قول الدين الحق، ويستكبرون عن الإيمان بمحمد ـ ﷺ ـ والمراد بالفسق المعاصي.
فصل دلت الآية على ان الكفار يخاطبون بفروع الإسلام، لأن الله تعالى علل عذابهم بأمرين :
٤٠٣
أولهما : الكفر، وثانيهما : الفسق وهذا الفِسق لا بدّ وأن يكون مغايراً لذلك الكفر لأن العَطْفَ يوجب المغايرة فثبت أن فسق الكافر يوجب العذاب في حقهم، ولا معنى للفسق إلا ترك المأمورات وفعل المنهيَّات.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٤٠١
قوله تعالى :﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ...
﴾ الآية لما ذكر دلائل النبوة والتوحيد وكان أهل مكة بسبب استغراقهم في لذات الدنيا أعرضوا عنها ولم يلتفتوا إليها لهذا السبب قال تعالى في حقهم :﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا﴾ [الأحقاف : ٢٠] فلما كان الأمر كذلك بين أن قوم عاد كانوا أكثر أموالاً وقوةً وجاهاً، ثم إن الله تعالى سلَّط عليهم العذاب بكفرهم وذكر قصتهم ليعتبر بها أهل مكة فيتركوا الاغترار بما وجدوه في الدنيا ويقبلوا على طلب الدين الحق فقال :" وَاذْكُرْ يا محمد لقومك أَخَا عَادٍ " أي هوداً ـ عليه الصلاة والسلام ـ.
قوله :﴿إِذْ أَنذَرَ﴾ بدل من " أخا " بدل اشتمال وتقدم تحقيقه.
وقوله ﴿بِالأَحْقَافِ﴾ هي جمع حِقْفٍ وهو الرمل المستطيل المعوجُّ ومنه احْقَوْقَفَ الهِلاَلُ، قال امرؤ القيس : ٤٤٥٤ـ فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وَانْتَحَى
بِنَا بَطْنُ حقْفٍ ذِي حِقَافٍ عَقَنْقَلِ
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٤٠٤
٤٠٤