والثالث : ـ وهو الصحيح ـ أنها نافية بمعنى مكّناكم في الذي ما مكّناهم فيه من القوة والبَسْطَةِ وسَعَةِ الأرزاق.
ويدل له قوله في مواضع :﴿أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ [الروم : ٩] وأمثاله.
وإنما عدل عن لفظ " ما " النافية إلى " إنْ " كراهية لاجتماع متماثلين لفظاً.
قال الزمخشري : وقد أَغَيُّ أبو الطيب في قوله : ٤٤٥٩ـ لَعْمُرَكَ ما ما بانَ مِنْكَ لَضَارِبٌ
..............................
وما ضره لو اقتدى بعذوبة لفظ التنزيل فقال :" مَا إنْ بان ".
فصل معنى الآية مكناهم فيما لم نمكنكم فيه من قوة الأبدان وطولِ العمر، وكَثْرةِ ا لمال ثم إنهم مع زيادة القُوَّة ما نَجَوْا من عذاب الله تعالى فكيف يكون حالكم ؟ ثم قال :﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً﴾ أي فتحنا عليهم أبواب النعم وأعطيناهم سمْعاً، فما استعملوه في سَمَاع الدلائل وأعطيناهم أبصاراً فما استعملوها في دلائل ملكوت السموات والأرض، وأعطيناهم أفئدة فما استعملوها في طلب معرفة الله تعالى بل صرفوا كل هذه القُوَى إلى طلب الدنيا ولذاتها فلا جَرَمَ ما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من عذاب الله تعالى.
قوله :﴿فَمَآ أَغْنَى ﴾ يجوز أن يكون " ما " نفياً وهو الظاهر.
أو استفهاماً للتقرير.
واستبعده أبو حيان لأجل قوله :﴿مِّن شَيْءٍ﴾ قال : إذ يصير التقدير أي شيء أعنى عنهم من
٤١٠
شيء ؟ فزاد " من " فِي الوَاجِبِ، وهو لا يجوز على الصحيح.
قال شهاب الدين : قالوا يجوز زيادتها في غير المُوجب.
وفسروا غير الموجب بالنفي والنهي والاستفهام وهذا استفهام.
قوله :﴿إِذْ كَانُواْ﴾ معمول لـ " أغْنى " وِهيَ مُشْربة معنى التعليل، أي لأنهم كانوا يجحدون فهو كقوله ضَرَبْتُهُ إذْ أَسَاءَ، أي ضربته لأنه أساء.
وفي هذه الآية تخويف لأهل مكة.
ثم قال :﴿وَحَاقَ بِه مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ يعني أنهم كانوا يطلبون نزول العذاب على سبل الاسْتِهْزَاء.
قوله تعالى :﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ الْقُرَى ﴾ يا كفار مكة كحِجْر ثَمُود وعاد باليمن وأرض سدوم ونحوها بالشام ﴿وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ﴾ الحُجج بيناها لهم لعل أهل القرى يرجعون.
قال الجبائي : قوله :﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ معناه لكي يرجعوا عن كفرهم وذلك يدل على أنه تعالى أراد رجوعهم ولم يرد إصرارهم وأجيب : بأنه فصل ما لو فعله غيره لكان ذلك لأجل الإرادة المذكورة وإنَّما ذهبنا إلى هذا التأويل للدلائل الدالة على أنه تعالى مريد لجميعِ الكائنات.
قوله تعالى :﴿فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةَ﴾ القُرْبَانُ ما تُقُرِّب به إلى الله.
أي اتخذوها شفعاء وقالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [الزمر : ٣].
قوله :﴿قُرْبَاناً﴾ فيه أربعة أوجه : أظهرها : أن المفعول الأول لـ " اتَّخَذَ " محذوف، هو عائد.....
" قُرْبَاناً " نصب على الحال، و " آلِهَةً " هو المفعول الثاني للاتِّخَاذ، والتقدير.....
نَصَرَهُم الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ مُتَقَرَّباً بهم آلهة.
٤١١
والثاني : أن المفعول الأول محذوف ـ كما تقدم ـ و " قُرْبَاناً " مفعولاً ثانياً و " آلهة " بدل منه.
وإليه نحا أبن عطية والحَوْفِيُّ وأبو البقاء، إلا أن الزمخشري منع هذه الوجه قال :" الفساد المعنى ".
ولم يبين جهة الفاسد.
قال أبو حيان : ويظهر أن المعنى صحيح على ذلك الإعراب.
قال شهاب الدين : ووجه الفساد ـ والله أعلم ـ أن القُرْبَانَ اسم لما تقرب به إلى الإله، فلو جعلناه مفعولاً ثانياً و " آلهةً " بدلاً منه لزم أن يكون الشيء المُتَقَرَّبُ به آلهةً والغرض أنه غيرُ آلهة.
بل هو شيء يتقرب به إليها فهو غيرها فكيف تكون الآلهة بدلاً منه ؟ وهذا مَا لاَ يَجُوزُ.
الثالث : أن " قرباناً " مفعولٌ من أجله.
وعزاه أبو حيان للحَوْفي.
وإليه ذهب أبو البقاء أيضاً.
وعلى هذا فـ " آلِهَةً " مفعولٌ ثان، والأول محذوف كما تقدم.
الرابع : أن يكون مصدراً.
نقله مكي.
ولولا أنه ذكر وجهاً ثانياً وهو المفعول من أجله لكان كلامه مؤولاً بأنه أراد بالمصدر المفعول من أجله لبُعْدِ معنى المصدر.
قوله :﴿بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ﴾ قال مقاتل : بل ضلت الآلهة عنهم فلم ينفعهم عد نزول العذاب لهم.
قوله :﴿وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ﴾ العامة على كسر الهمزة، وسكون الفاء، مصدر أَفِكَ يَأفِكُ إفْكاً، أي كَذِبُهُمْ وابن عباس بالفتح وهو مصدر له أيضاً.
وابن عباس ـ أيضا ـ وعكرمة والصَّباح بنْ العلاء أَفَكَهُمْ ـ بثلاث فتحات ـ فعلاً ماضياً، أي صَرَفَهُمْ.
وأبو عياض وعكرمة أيضاً كذلك، إلا أنه بتشديد الفاء للتكثير، وابن الزبير، وابن
٤١٢


الصفحة التالية
Icon