بتقدير الله، كما أنه كف أيهديهم عنكم بالفرار، وأيديكم عنهم بالرجوع عنهم وتركهم.
روى ثابتٌ عن أنس بن مالك ـ (رضي الله عنه) ـ أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هُبَطُوا على رسول الله ـ ﷺ ـ من جبل التنعيم متسلحين يريدون غِرَّةَ النبي ـ ﷺ ـ وأصحابه فأخذهم سلْماً فاستحياهم فأنزل الله :﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾.
قال عبدالله بن مُغَفَّل المُزَنيّ : كنا مع النبي ـ ﷺ بالحديبية في اصل الشجرة التي قال الله تعالى " في القرآن "، وعلى ظهره غُصْنٌ من أغصان الشجرة فرفعته عن ظهرهِ، وعلي بن أبي طالب ـ (رضي الله عنه) ـ بين يديه يكتب كتاب الصلح فخرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح فنادَوْا في وجوهنا فدعى عليهم نبي الله ـ ﷺ ـ فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال لهم رسول الله ـ ﷺ ـ جئتم في عهد (أحد) أو هل جَعَلَ لكم أحد أمناً ؟ قالوا : اللَّهم لا فَخَلَّى سبيلهم.
فأنزل الله هذه الآية.
قوله :﴿وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً﴾ قرأ أبو عمرو يَعْلَمُونَ بالياء وقرأ الآخرون بالتاء من فوق قرأ الغيبة فهو رجوع إلى قوله :" أيْدِيَهُمْ " وَ " عَنْهُمْ ".
ومن قرأ بالخطاب فهو رجوع إلى قوله : أيْدِيَكُمْ " و " عَنكُم "، والمعنى أن الله يرى فيه من المصلحة وإنْ كُنْتُمْ لا ترون ذلك.
ثم بين ذلك بقوله تعالى :﴿ُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ وهذا أشارة إلى أن الكف لم يكن الأمر (فيهم) لأنهم كفروا وصدوكم وأحصروا وكل ذلك يقتضي قتَالَهُم، فلا يقع لأحد أن الفريقين اتفقوا واصطلحوا، ولم يكن بينهما خلاف ولا نزاع بلا الاختلافُ والنزاعُ باقٍ مستمر ؛ لأنهم هم الذين كفروا وصدوكم ومنعوكم فازدادُوا كفراً وعداوةً، وإنما ذلك للرجال المؤمنينَ والنِّساء المؤمنات.
قوله :" وَالهَدْيَ " العامة على نصبه، والمشهور أنه نسق على الضمير المنصوب في
٥٠١
" صَدُّوكُمْ " وقيل : نصب على المعية.
وفيه ضعف، لإمكان العطف.
وقرأ أبو عمرو ـ في رواية ـ بجره عطفاً على " المَسْجِدِ الحَرَامِ ".
ولا بد من حذف مضاف، أي وعَنْ نَحْرِ الهَدْي، وقرىء برفعه على أنه مرفوع بفعل مقدر لم يسم فاعله أي وصُدَّ الهَدْيُ.
والعامة على فتح الهاء وسكون الدال، وروي عن أبي عمرو وعاصم وغيرهما كسر الدال وتشديد الياء.
وحكى ابن خالويه ثلاث لغات الهَدْي وهي الشهيرة لغة قريش، والهَدِيّ والهَدَا.
قوله :" مَعْكُوفاً " حال من الهدى أي محبوساً، يقال : عَكَفْتُ الرَّجُلَ عن حاجته.
وأنكر الفارس تعدية " عكف " بنفسه، وأثبتها ابن سِيدَهْ والأزهريّ وغيرُهُمَا.
وهو ظاهر القرآن لبناء اسم مفعول منه.
قوله :﴿أَن يَبْلُغَ﴾ فيه أوجه : أحدها : أنه على إسقاط الخافض، أي " عَنْ " أو " مِنْ أن " وحينئذ يجوز في هذا الجار المقدر أن يتعلق ـ " صَدُّوكُمْ " وأن يتعلق بـ " مَعْكُوفاً " أي محبوساً عن بلوغ مَحِلِّهِ.
الثاني : أنه مفعول من أجله، وحينئذ يجوز أن يكون علة للصد، والتقدير : صدوا الهدي كراهة أن يبلغ محله وأن يكون علة لـ " مَعْكُوفاً " أي لأجل أن يبلغ محله، ويكون الحبس من المسلِمِينَ.
الثالث : أنه بدل من " الهدي " بدل اشتمال أي صدوا بلوغ الهدي محله.
(فصل معنى الآية ﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ يعنى كفار مكة " وَصَدُّوكُمْ " منعوكم {عَنِ الْمَسْجِدِ
٥٠٢


الصفحة التالية
Icon