خفْيةً في عسكره وقال : انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم وإن لم تَرَ ذلك فاستعمل فيهم ما يستعمل في الكفار، ففعل ذلك خال ووافاهم فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء فأخذ منهم صدقاتهم ولم يَرَ منه إلا الطاعة والخَيْرَ وانصرف إلى رسول الله ـ ﷺ ـ وأخبره فنزل ﴿ يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا ااْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ﴾ يعني الوليد بن عقبة " بِنَبأ " بخبر، ﴿فَتَبَيَّنُوا ااْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ﴾ كيلا تصيبوا بالقتل والقتال قوماً بجالهة ﴿فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ﴾ من إصابتكم بالخَطَأ، " نَادِمينَ ".
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف، لأن الله تعالى لم يقل : إني أنزلتها لكذا والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم ينقل عنه أنه قال : وردت الآية لبيان ذلك حسب، غاية ما في الباب أنها نزلت في ذلك الوقت وهو مثل تاريخ نزول الآية، ومما يصدِّق ذلك ويؤكده أن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد، بعيد لأنه توهم وظن فأخطأ، والمخطىء لا يسمَّى فاسقاً، وكيف والفاسق في أكثر المواضع المراد به من خرج عن رتبة الإيمان، كقوله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ﴾ [المنافقون : ٦] وقوله تعالى :﴿فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف : ٥٠] وقوله :﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُوا ااْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا﴾ [السجدة : ٢٠] إلى غير ذلك ؟ !.
فصل دلت الآية على أن خبر الواحد حجة وشهادة الفاسق لا تقبل أما في المسألة الأولى فلأنه علل الأمر بالتوقف بكونه فاسقاً ولو كان خبر الواحد العدل لا يقبل لما كان للترتيب على النسق فائدة وأما في المسألة الثانية فلوجهين : أحدهما : أنه أمر بالتبين وقيل قوله كان الحاكم مأموراً بالتبين، فلم يفد قوله الفاسق شيئاً، ثم إنَّ الله تعالى أمر بالتبين في الخبر والنبأ وباب الشهادة أضيق من باب الخبر.
الثاني : أنه تعالى قال :﴿أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ﴾، والجهل فو الخطأ ؛ لأن المجتهد إذا أخطأ لا يسمى جاهلاً فالذي يبني الحكم على قول الفاسق إن لم يصف جاهلاً فلا يجوز البناءُ على قَوْلِهِ.
قوله :" أَنْ تُصِيبُوا " مفعول له كقوله : أَنْ تَحْبَطَ ".
قال ابن الخطيب : معناه على
٥٣١
مذهب الكوفيين لئَلاّ تُصِيبُوا، و على مذهب البصريين كَرَاهَةَ أَنْ تُصِبُوا.
قال : ويحتمل أن يكون المراد فتبينوا واتقوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين، فقوله :" بِجَهَالةٍ " في تقدير حال أي تُصيبوهُمْ جَهلينَ، ثم حقق ذلك بقوله :﴿فتبحوا على ما فعلتم نادمين﴾.
وهذا بيان، لأن الجاهل لا بد وأن ينقدم على فِعْلِهِ.
وقوله :" تصبحوا " معناه تصيبوا.
قال النحاة : أصبح يستعمل على ثلاثة أوجه : أحدها : بمعنى دخول الإنسان في الصباح.
والثاني : بمعنى كان الأمر وقت الصباح كما يقال : أصبحَ المريضُ اليومَ خَيْراً مما كان يريد كونه في وقت الصبح على حالةِ خير.
الثالث : بمعنى صار كقوله :" أصْبحَ زَيدٌ غَنَياً " أي صار من غير إرادة وقتٍ دونَ وقتٍ.
وهذا هو المراد من الآية.
وكذلك " أمسى وأَضْحَى ".
قال ابن الخطيب : والصيرورة قد تكون من ابتداء أمرٍ وَتدُومُ وقد تكون في آخر الأمر بمعنى آل الأمر إليه، وقد تكون متسوطة ؛ فمثال الأول قوللك : صَارَ الطِّفْل فاهِماً حَدُّهُ.
ومثال الثالث قولك : صَار زيدٌ عالماً إذا لم ترد أخذه فيهِ ولا بلوغه ونهايته بل كونه ملتبساً به.
وإذا علم هذا فنقول : أصلُ استعمال أصبح فيما يصير الشيء بالغاً في الوصف نهايته وأصل أضحى التوسط، لا يقال : أهل الاستعمال لا يفرقون بين الأمور ويستعملون الألفاظ الثلاثة بمعنى واحداً، لأنَّا نقول : إذا تقارَبتِ المعاني جاز الاستعمال، وجواز الاستعمال لا ينافي الأصل، وكثير من الألفاظ أصله معنى واستعمل استعمالاً شائعاً فيما يشاركه.
وإذا علم هذا فقوله تعالى " فَتُصْبِحُوا " أي فتَصِيروا آخذين في الندم ثم تِسْتَدِيمُونَهُ، وكذلك في قوله :﴿فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً﴾ [آل عمران : ١٠٣] أي أخذتم في الأخوَّة وأنتم فهيا زائدونَ مستمرُّون.
قوله :" نَادِمينَ " الندم هَمٌّ دائم، والنون والدال والميم في تقلبها لا تَنْفَكُّ عن معنى الدوام كقول القائل : أدْمَنَ في الشُّرْب ومُدْمِنٌ أي أقام ومنه : المَدِينَةُ.
٥٣٢


الصفحة التالية
Icon