غاية ما في الباب أن الأمر على خلاف ما ينبغي كذلك :" إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بنَبأٍ " إشارة إلى أنَّ مجيء الفاسق بالنبأ ينبغي أن لا يقع إلا قليلاً مع أن مجيء الفاسق كثيرٌ، وذلك لأن قول الفاسق صار عند أول الأمر أشدَّ قبولاً من قول الصادق الصالح، وقال :" وَإنْ طَائِفَتَانِ " ولم يقل :" فِرْقَتَان " تحقيقاً للمعنى الذي ذكرناه وهو التقليل، لأن الطائفة دون الفرقة، قال تعالى :﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ﴾ [التوبة : ١٢٢].
فصل قال : من المؤمنين ولم يقل : منكم مع أن الخطاب مع المؤمنين سبق في قوله تعالى :﴿ يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا ااْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ﴾ [الحجرات : ٦] تنبيهاً على قبح ذلك وتبعيداً لهم عنه، كقول السيد لعبده : إنْ رأيتَ أحداً مِنْ غِلمَاني يفعل كذا فامنعه، فيصير بذلك مانعاً للمخاطب عن ذلك الفعل بالطريق الحسن كأنه يقول : أنت حاشاك أنْ تفعل ذلك وإن فعل غعيرك فامْنَعْهُ، كذلك ههنا.
فصل قال : وإن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ولم يقل : فإن اقْتَتَلَ طائفتان من المؤمنين مع أن كلمة " إن " اتصالها بالفعل أولى، وذلك ليكون الابتداء بما يمنع من القتال فيتأكد معنى النكرة، والمدلول عليها بكلمة إنْ، وذلك لأن كونهما طائتفين (مؤمنتين) يقتضي أن لا يقع القتال بينهما.
فإن قيل : فِلَم لَمْ يقل : يا أيها الذين آمنوا إن فاسقٌ " جَاءَكُمْ " أو إن أحدٌ من الفسّاق جاءكم ليكون الابتداء بما يمنعهم من الإصغاء إلى كلامه وهو كونه فاسقاً ؟ أو يزداد بسببه فسقه بالمجيء به بسبب الفسق ؟ فالجواب : أن الاقتتال لا يقع سبباً للإيمان ولا للزيادة فقال : إنْ جَاءَكُمْ فاسقٌ أي سواء كان فاسقاً أولاً أو جاءكم بالنبأ فصار فاسقاً به.
ولو قال : إنْ أَحَدٌ من الفُسَّاقِ جاءكم لا يتناول إلا مشهور الفِسْقِ قب المجيء إذا جاءهم بالنَّبَأِ.
فصل قوله تعالى :﴿أقْتَتَلُوا﴾ ولم يقل يَقْتَتِلُوا (بصيغة الاستقبال} ؛ لأن صيغة الاستقبال
٥٣٩
تنبىء عن الدوام والاستمرار عن الدوام والاستمرار فيفهم من أن طائفتين من المؤمنين إنْ تمادى الاقتتال بينهما فأصلحوا، وهذا لأن صيغة المستقبل تنبىء عن ذلك، يقال : فُلاَنٌ يَتَهَدَّدُ وَيَصُومُ.
فصل قال :" اقْتَتَلُوا " ولم يقل : اقْتَتَلاَ وقال :" فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا " ولم يقل : بَيْنَهُمْ لأن الفتنة قائمة عند الاقتتال، وكل أحد برأسِهِ يكون فاعلا فعللاً فقال : اقْتَتَلُوا وعند الصلح تتفق كلمةُ كُلِّ طائفة وإلا لم يتحقق (الصلح) فقال :" بَيْنَهُمَا " لكون الطائفتين حينئذ كَنَفْسَيْنِ.
قوله :﴿فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى ﴾ وأَنبت الإجابة إلى حكم كتاب الله.
وقيل : إلى طاعة الرسول وأولي الأمر.
وقيل : إلى الصُّلْحِ.
كقوله تعالى :﴿وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ﴾ [الأنفال : ١] وقيل : إلى التقوى، لأن من خاف الله لا يبقى له عدو إلا الشيطان، لقوله :﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً﴾ [فاطر : ٦].
فإن قيل : كيف يصح في هذا الموضع كلمة " إنْ " من أنها تستعمل في الشرط الذي لا يتوقع وقوعه وبغي أحدهما عند الاقتتال متحقق الوقوع فيكون مثل قوله القائد : إنْ طَلَعْتْ الشَّمْسُ ؟ فالجواب : أن فيه معنى لطيفاً وهو أن الله تعالى يقول : الاقتتال بين طائفتين لا يكون إلا نادر الوقوع لأن كل طائفة تظن أن الأخرى فئة الكفر والفساد كما يتحقق في الليالي المظلمة، أو يقع لكل طائفة أن القتال جائز باجتهاد خطأ، فقال تعالى : الاقتتال لا يقع إلى كذا فإن بَانَ لَهُمَا أو لأحدهما الخطأ واستمرّ عليه فهو نادر وعند ذلك يكون قد بغى فقال :" فَإنْ بَغَتْ " يعني بعد انكشاف الأمْر، وهذا يفيد النُّدْرة وقِلَّةَ الوقوع.
فإنْ قيل : لم قال : فإنْ بَغَتْ ولم يقل : فَإن تَبْغِ ؟ فالجواب : ما تقدم في قَوْلِهِ تَعَالَى :{اقْتَتَلُوا " ولم يقل : يَقْتَتلُوا.
قوله :" حَتَّى تَفِيء " العَامة على همزة من فَاء يَفِيءُ أي رَجَعَ كجَاء يَجِيءُ.
والزهري : بياء مفتوحة كمضارع وَفَا وهذا على لغة من يقصر فيقال :" جاَ، يَجِي "
٥٤٠