حالاً فهو كقول القائل : مَرَرْتُ بِأَخِي زَيْدٍ (قَائِماً) ويريد كون زيدٍ قائما.
وذلك لا يجوز.
قلنا : من أكل لحمه فقط أكل فصار الأخ مأكولاً مفعولاً بخلاف المرور بأخِي زيدٍ.
فصل في هذا التشبيه إشارة إلى أن عِرْضَ الإنسان كَدمِهِ ولَحْمِهِ لأنَّ الإنسان يتألمُ قلبه من قرض العرض كما يتألم جسمه من قطع اللحم.
وهذا من باب القياس الظاهر ؟ لأن عرض الإنسان أشرف من لحمه ودمه فلما لم يحسن من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى، لأن ذلك آلمُ.
وقوله :" لَحْمَ أَخِيهِ " آكد في المنع ؛ لأن العدو يحمله الغَضَبُ على مَضْغ لحم العدوِّ، وفي قوله :" مَيْتاً " إشارةٌ إلى دفع وَهَمٍ وهو أن يقال : الشَّتم في الوجه يؤلم فيحرم وأما الاغتياب فلا اطلاع عليه للمغتاب فلا يؤلم فقال : آكل لحم الأخ وهو ميت أيضاً يؤلمه ومع هذا فهو في غاية القبح لِمَا أنَّه لو اطلع عليه لتألم فإن الميت لو أحس بأكل لحمه لآلمه، وفيه معنى لطيفٌ وهو أن الاغتياب بأكل لحم الآدمِيِّ ميتاً ولا يحل أكله إلا للمضظر بقدر الحاجة، والمضطر إذا وجد لحم الشاة الميتة ولحم الآدمي فلا يأكل لحم الآدميّ فكذلك المغتاب إن وجد لحاجته مدفعاً غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب.
قوله :" فَكَرِهْتُمُوهُ " قال الفراء : تقديره : فقَدْ كَرِهْتُمُوهُ فلا تفعلوه.
وقال ابن الخطيب : الفاء في تقدير جواب كلام كأنه تعالى لما قال : أَيُحِبُّ للإنكار فكأنه قال : لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه فكرهتموه إذَنْ.
وقال أبو البقاء : المعطوف عليه محذوف تقديره عُرِضَ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ فَكَرهتُمُوهُ.
والمعنى يعرض عليكم فَتكرهُونَهُ.
وقيل : إن صح ذلك عندكم فأنتم (أي) تكرهونه قال ابن الخطيب : هو كمتعلق المسبّب بالسبب وتَرَقُّبِهِ عَلَيْه كقولك : جَاءَ فُلاَنٌ ماشياً فتَعِبَ، فقيل : هو خبر يمعنى الأمر كقولهم :" اتَّقَى اللهَ امْرُؤٌ فَعَلَ خَيْراً يُثَبْ عَلَيْهِ ".
وقرأ أبو حيوة والجَحْدرِيّ : فكُرِّهْتُمُوهُ
٥٥١
ـ بضم الكاف وتشديد الراء ـ عدي بالتضعيف إلى ثانٍ بخلاف قوله أولاً :" كَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ " فإنه وإن كان مضعّفاً لم يتعدّ لواحد لتضمنه معنى بَغَّضَ.
فصل قال ابن الخطيب : الضمير في قوله : فَكَرِهْتُمُوهُ " فيه وجوه : أظهرها : أن يعود إلى الآكل لأن قوله تعالى :﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ﴾ معناه أيحب أحدمكم الأكل لأن " أَنْ " مع الفعل للمصدر أي فَكِرهْتُمُ الأَكْلَ.
وثانيها : أن يعود إلى اللحم أي فَكرِهْتُمُ اللَّحْمَ.
وثالثها : أن يعود إلى الميّت في قوله :" ميتاً " تقديره : أيُحِبُّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً متغيراً فكرهتموه فكأنه صفة لقوله :" ميتاً " ويكون فيه زيادَةُ مبالغة في التحذير يعني الميتة أن أكلت في النُّدرة لسبب كان نادراً ولكن إذا أَنْتَنَ وأروح وتغير لا يؤكل أصلاً فكذلك ينبغي أنْ يكون الغيبة، وذلك يحقّق الكارهة ويوجب النُّفْرة إلى حد لا يشتهي الإنسان أن يبيت في بيت فيه ميت فكيف يقربقه بحيث يأكله ففيه إذَنْ كراهة شديدة فكذلك حال الغيبة.
فصل قال مجاهد : لما قيل لهم : أَيُحِبُّ أحَدُكُمْ أَنْ يَأكُلَ لَحْم أَخِيهِ مَيْتاً ؟ قالوا : لا، قيل :" فكرهْتُمُوهُ " أي كما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره باللسوء غائباً.
قال الزجاج : تأويله إن ذِكْرضكَ مَنْ لم يَحْضُرك بسُوءٍ بمنزلةِ أكلِ لحمه وهو ميت لا يحسُّ بذلك.
قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ " لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقوم لَهُمْ أَظَْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَلُحُومَهُمْ فَقُلْتُ : مَنْ هَؤُلاَءَ يا جِبْرِيلُ.
قال : هَؤُلاء الذين يأكلون لحُوم النَّاسِ ويَقَعُونَ في أَعْرَاضِهِمْ ".
٥٥٢
قوله :" وأتَّقُوا اللهَ " عطف على ما تقدم من الأوَامِر و النواهي أي اجتنبوا واتقوا الله ﴿إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾ واعلم أنه تعالى ختم الآيتين بذكر التوبة فقال في الأولَى :﴿وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ وقال ههنا :﴿إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾ لكن لما كان الابتداء في الآية الأولى بالنهي في قوله :﴿لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ﴾ ذكر النفي الذي هو قريب من النهي وفي الثانية كان الابتداء في قوله :" اجْتَنِبُوا كَثِيراً " فذكر الإثبات الذي هو قريبٌ من الأمْر.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٥٤٥