أظهر فعل التقوى أراد أن يصير له ما للمتقي من الإكرام ولا يحصل له ذلك لأن التقوى من عمل القلب.
قوله :" وَلَمَّا يَدْخُلْ " هذه الجملة مستأنفة، أخبر تعالى بذلك.
وجعلها الزمخشري حالاً مستقرّة في :" قَولُوا " وقد تقدم الكلام في " لما " وما تدل عليه، والفرق بينها وبين " لم " في البقرة عند قوله تعالى :﴿وَلَمَّا يَأْتِكُم﴾ [البقرة : ٢١٤].
وقال الزمخشري : فإن قلت : هو بعد قوله :" لَمْ تُؤمِنُوا : يشبه التكرير من غير استقلال بفائدة متجدِّدة!.
قلت : ليس كذلك، فإن فائدة قوله : لم تُؤْمِنُوا هو تكذيب دعواهم.
وقوله :" وَلَمَّا يَدْخُل " توقيت لِمَا أمروا به أن يقولوه.
ثم قال :" ولما في " لمّا " من معنى التوقيع د لي لعى أن هؤلاء قد آمنوا فيم بعده "، قال أبو حيان : فلا أدري من أي وجه يكون النفي بِلَمَّا يقع بعد ؟ !.
قال شهاب الدين : لأنَّها لنفي قَدْ فَعل، وقَدْ للتَّوَقع.
فصل قال ابن الخطيب : لَمْ ولَمَّا حَرْفَا نفي، ومَا، وإنْ ولاَ كذلك من حرفو النفي ولَمْ ولَمَّا يجزمان وغيرهما من حروف النفي لا يجزم فما الفرق بينهما ؟.
فالجواب : أن لم ولما يفعلان بالفعل ما لا يفعل به غيرهما، فإنهما يَصْرِفَان معناه من الاستقبال إِلى النفي تقول : لَمْ يُؤْمِنْ أَمْسِ، وآمَنَ اليَوْمَ، ولا تقول : لاَ يُؤْمِنُ أَمْسِ، فلما فعلا بالفعل ما لم يفعل به غيرهما جزم بهما.
فإن قيل : مع هذا : لم جزم بهما ؟ غاية ما في الباب أن الفرق حصل ولكن ما الدليل على وجوب الجزم بهما ؟ نقول : لأن الجزمَ والقَطْع يَحْصل في الأفعال الماضية ؛ لأنَّ من قال فقد حصل القطع بقيامه ولا يجوز أن يكون ما قام، والأفعال المستقبلة إما متوقعة الحصول وإما ممكنة من غير تَوَقُّع، فلا يمكن الجزم والقطع فيه، فإذا كان " لَمَّا ولَمْ " يَقْلِبَان اللَّفظَ من الاستقبالِ إلى المُضِيِّ أفاد الجزم والقطع في المعنى فجعل له مناسباً والقطع في المعنى فجعل له مناسباً لمعناه وهو الجزم لفظاً، وعلى هذا نقول : إذا كان السببُ في الجزم ما ذكرنا فلهذا
٥٥٩
قيل : الأمر يجزم، لأن الآمرّ كأنه جزم على المأمور أن يفعله ولا يتركه، فأتى بلفظ مجزوم تنبيهاً على أنّ الفعل لا بد من إيقاعه و " إنْ " في الشرط كـ " لَمْ " لأن " إنْ " تغير معنى الفعل من المُضِيِّ إلى الاستقبال كما أن " لَمْ " تغيِّره من الاستقبال إلى المُضِي تقول : إِنْ أكْرَمْتَنِي أُكْرِمْكَ، فلما كان " إنْ " مثلُ " لَمْ " في كونه حرفاً، وفي لزوم الدخول على الأفعال وتغييرها صار جازماً للشبه اللَّفْظيِّ وأما الجزاء فجزم لِمَا ذَكَرْنا مِن المعنى، فإن الجزاء يجزم لوقوعه عند وجود الشرط فجَزْمُهُ إِذَنْ إمَّا للْمعْنَى، أو للشبه اللفظي.
فصل أخبر الله تعالى أنَّ حقيقة الإيمان هو التصديق بالقلب، وأن الإقرار باللِّسان وإظهار شرائعه بالإيمان لا يكون إيماناً دون التصديق بالقلب والإخلاص و الإسلامُ هو الدخول في السِّلم، وهو الانقياد والطاعة يقال : أسْلَمَ الرَّجُلُ إذا دخل في الإسلام والسِّلْم، كما يقال أَشْتَى إذَا دَخَلَ في الشِّتَاء، وأَصَافَ إذَا دخَلَ في الصَّيْفِ، وأرْبَعَ إذا دخل في الرَّبِيع، فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان والأبدان والجنان كقوله ـ عز وجلّ ـ لإبراهيم :﴿أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة : ١٣١] ومنها : ما هو انقياد باللِّسان دون القلب وذلك قوله :﴿وَلَـاكِن قُولُوا ااْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾.
قال ابن الخطيب : المؤمن والمسلم واحد عن أهل السنة فيكون الفرق بين العام والخاص أن الإيمان لا يحصل إلا بالقلب والانقياد قد يحصل بالقلب وقد يحصل باللسان والإسلام أعم لكن العام في صورة الخاص متَّحد مع الخاص ولا يكون أمراً آخر غيره.
مثلاه : الحَيَوَان أَعَمُّ من الإنسان، لكن الحيوان في صورة الإنسان (ليس) أمراً ينفكُّ عن الإنسان ويجوز أن يكون ذلك الحيوانُ حيواناً ولا يكون إنساناً، فالعام والخاص مختلفان في العموم متحدان في الوجود وكذلك المؤمن والمسلم.
وسيأتي بقية الكلام عن ذلك في الذَّاريات عند قوله :﴿فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الذاريات : ٣٥ و٣٦] إن شاء الله تعالى.
قال ابن الخطيب : وفي الآية إشارة إلى بيان حال المؤلَّفة إذا أسلموا ويكون إيمانهم ((بعد) ضعيفاً) قال لهم : لَمْ تؤمنوا لأن الإيمان أيقانٌ وذلك بعد لم يدخل في قلوبكم وسيدخل باطّلاعكم على محاسن الإسلام.
٥٦٠


الصفحة التالية
Icon