خلقهم ابتداء لقوله تعالى :﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف : ٨٧].
وقيل : هو خلق السموات لأنه هو الخلق الأول فكأنه تعالى قال :﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوا ااْ إِلَى السَّمَآءِ﴾ [ق : ٦] ثم قال :" أَفَعَيِينَا " بهذا، ويؤيدهُ قوله تعالى :﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ﴾ [الأحقاف : ٣٣] وقال بعد هذه الآية :﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ﴾ وعطفه بحرف الواو على ما تقدم من الخلق، وهو بناء السموات، ومدّ الأرض، وتنزيل الماء وإنبات الحبِّ.
فصل عطف دلائل الآفاق بعضها على بعض بحرف الواو فقال :" وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا ونَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً "، ثم في الدليل النفسيّ ذكر حرف الاستفهام، والفاء بعده إشارة إلى أن تلك الدلائل من جنس، وهذا من جنس، فلم يجعل هذا تبعاً لذلك، ومثل هذا مراعى في سورة " يس " حيث قال :﴿أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ﴾ [يس : ٧٧].
فإن قيل : لِمَ لَمْ يعطف الدليل الآفاقيّ ههنا كما عطفه في سورة يس ؟ فالجواب - والله أعلم - أن ههنا وُجِدَ منهم استبعاد بقولهم :﴿ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ﴾ [ق : ٣] فاستدل بالأكبر وهو خلق السموات، ثم نزل كأنه قال : لا حاجة إلى ذلك الاستدلال بل في أنفسهم دليل جواز إرْشادِهِمْ لا ليدفع استبعادهم فبدأ بالأَدْنَى وارتقى إلى الأعْلى.
فصل في تعريف " الخلق الأول " وتنكير " خلق جديد " وجهان : الأول : أن الأول عرفه كل أحد و " الخلق الجديد " لم يعرفه كل أحد ولم يعلم كيفيته ولأنَّ الكلام عنهم وهم لم يكونوا عالمين بالخلق الجديد.
الثاني : أن ذلك لبيان إنكارهم للخلق الثاني من كل وجه كأنهم قالوا : أيكون لنا خلق على وجه إنكار الإله بالكلية.
قوله تعالى :﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾.
قوله :" وَنَعْلَمُ " خبر مبتدأ مضمر تقديره : ونَحْنُ نَعْلَمُ، والجملة الاسمية حينئذٍ حالٌ.
ولا يجوز أن يكون هو حالاً بنفسه، لأنه مضارع مثبت باشرته الواو، وكذلك قوله :" ونحن أقرب ".
٢٤
فصل إذا قلنا : بأن الخلق الأول هو خلق السموات فهذا ابتداء استدلال بخلق الإنسان، وإذا قلنا : بأن الخلق الأول هو خلق الإنسان فهذا تتميم للاستدلال بأن خلق الإنسان أول مرة، وقوله ﴿وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ أي يحدث به قلبه، ولا يخفى علينا سرائره وضمائره ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ لأن أبعاضه تحجب بعضها بعضاً ولا يحجب علمَ الله شيءٌ، وهذا بيان لكمال علمِهِ.
قوله :﴿مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ كقولهم : مَسْجِدُ الْجَامِعِ، أي حبل العِرْقِ الوَرِيدِ.
أو لأنَّ الحبل أعم فأضيف للبيان نحو : بعيرُ سَانِيَةٍ أو يراد : حبل العاتق فأضيف إلى الوريد كما يضاف إلى العاتق لأنهما في عضو واحد.
قال البغوي : حبل الوريد عرق العُنُق وهو عرق بين الحُلْقُوم والعِلْبَاوَيْنِ تتفرق في البدن، والحبل هو الوريد فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين.
والوريد إما بمعنى الوارد وإما بمعنى الوُرُود.
والوريدُ عرق كبير في العنق.
فقال : إنهما وَرِيدان.
قال الزمخشري : عرقان مُكْتَنِفَان بصفحتي العُنُق في مقدّمهما يتصلان بالوتين يردان من الرأس إليه يسمى وريداً لأنَّ الروح ترد إليه وأنشد :
٤٥١٠ - كَأَنَّ ورِيدَيْهِ رشَاءَا خُلَّبِ
وقال أبْرَمُ : هو نهر الجسد وفي القلب الوتين، وفي الظهر الأبهر، وفي الذراع والفخذ الأكحل واللسان وفي الخنصر الأسلم.
قوله :" إذْ يَتَلَقَّى " ظرف لـ " أَقْرَب " ويجوز أن يكون منصوباً باذْكُرْ.
والمعنى إذ
٢٥
يتلقى ويأخذ الملكان الموكلان بالإنسان عمله ومنطقه يحفظانه ويكتبانه.
قوله :﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ﴾ أي أحدهما عن يَمِينه والآخر عن شماله فالذي عن اليمين يكتب الحسنات، والذي عن الشمال يكتب السيئات.
وقوله :" قَعِيدٌ " أي قاعد، فيجوز أن يكون مفرداً على بابه، فيكون بمعنى مُقَاعِد كخَلِيطٍ بمعنى مخالط.
وفيه لطيفة، وهي أن الله تعالى قال : ونحن أقرب إليه من حبل الوريد المخالط لأجزائه الداخل في أعضائه والملك متنحٍ عنه فيكون علمنا به أكمل من علم الكاتب، أو يكون عدل من فاعل إلى فعيل مبالغة كعليم.
وجوز الكوفيون أن يكون فعيلٌ واقعاً موقع الاثنين أراد قعوداً كالرسوب يجعل للاثنين والجمع كما قال تعالى في الاثنين :﴿فَقُولا اا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء : ١٦].
وقال المبرد : الأصل : عن اليمين قعيد وعن الشمال، فأخر عن موضعه، وهذا لا يُنَحِّي من وقوع المفرد موقع المثنى، والأجود أن يدعى حذف إما من الأول أي عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد، وإما من الثاني فيكون قعيد الملفوظ به للأول.
ومثله قوله : ٤٥١١ - رَمَانِي بأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي
بَرِيئاً وَمِنْ أَجْل الطَّوِيِّ رَمَانِي