فصل هذا جواب لكلام مقدر، كأن الكافر حين يلقى في النار يقول : ربنا أطغاني شَيْطَانِي، فيقول الشيطان : ربنا ما أطغيته بدليل قوله تعالى :﴿لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ﴾ ؛ لأنَّ المخاصمة تستدعي كلاماً من الجانبين ونظيره قوله تعالى في سورة " ص " :﴿قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ﴾ [ص : ٦٠] إلى قوله :﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ﴾ [ص : ٦٤].
قال الزمخشري : وهذا يدل على أن المراد بالقرين في الآية المتقدمة هو الشيطان لا الملك الذي هو شهيد وقعيدٌ، وعلى هذا فيكون قوله :﴿رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ﴾، مناقضاً لقوله : أعتدته.
قال ابن الخطيب : وللزمخشري أن يُجِيبَ بوجهين : أحدهما : أن يقول (إن قول) الشيطان : أعتدته بمعنى زَيَّنْتُ له.
والثاني : أن تكون الإشارة إلى حالين، ففي الحالة الأولى أنا فعلت به ذلك إظهاراً للانتقام مِنْ بني آدم وتصحيحاً لقوله :﴿فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص : ٨٢] ثم إذا رأى العذاب وهو معه مشترك يقول : رَبَّنَا ما أَطْغَيْتُه فيرجع عن مقاله عند ظهور العذاب.
قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومقاتل : المُرادُ بالقرينِ هنا : الملك أي يقول الكافر : ربِّ إن الملك زاد عليّ في الكتابة فيقول الملك : رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتهُ يعني ما زدت عليه وما كتبت إلا ما قال وعمل ﴿وَلَـاكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ﴾ أي طويل لا يرجع عنه إلى الحق.
فإن قيل : القائل هنا واحد وقال : رَبَّنَا ما أطغيته ولم يقل : ربِّ وفي كثير من المواضع القائل واحد وقال : ربّ، كقوله :﴿رَبِّ أَرِنِي﴾ [البقرة : ٢٦٠] وقال نوح :﴿رَّبِّ اغْفِرْ لِي﴾ [نوح : ٢٨] ﴿رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ﴾ [نوح : ٢٦] ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ﴾ [يوسف : ٣٣] ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً﴾ [التحريم : ١١] " رَبِّ فَأَنْظِرْنِي ".
فالجواب : أن في جميع تلك المواضع القائل طالب، ولا يحسن أن يقول الطالب يا رب أعطني وإنما يحسن أن يقول : أعطِنا لأن كونه :" رَبًّا " لا يناسب تخصيصَ الغَالِبِ.
وأما هنا فالموضع موضع هبة وعظَمة وعرض حال فقال : ربنا ما أطغيته.
فإن قيل : ما الوجه في اتِّصاف الضَّلالِ بالبُعْدِ ؟
٣٣
فالجواب : أن الضلال يكون أكثر ضلالاً من الطريق فإذا تَمَادى في الضلال وبقي فيه مدة يبعد عن المقصِد كثيراً، وإذا عدم الضلال قَصُرَت الطريق عن قريب فلا يبعد عن المقصد كثيراً فقوله :" ضلال بعيد " وصف للمصدر بما يوصف به الفاعل، كما يقال : كلامٌ صَادقٌ، وعيشةٌ راضيةٌ أي (و) ضلال ذو بعد والضلال إذا بعد مَدَاه وامتد الضلال فيه فيصير بَيِّناً ويظهر الضلال لأن من حَادَ عن الطريق (وبَعُد عنه يبعد عليه الصواب ولا يرى للمقصد أثراً فبيَّن له أنه ضلّ عن الطريق) وربما يقع في أَوْدِيَةٍ ومَفاوزَ تظهر له أماراتُ الضلال بخلاف من حَادَ قليلاً، فالضلال وصفه الله بالوصفين في كثيرٍ من المواضع، فتارةً قال :﴿في ضلال مبين﴾، وأخرى :﴿في ضلال بعيد﴾.
فإن قيل : كيف قال : ما أطغيته مع أنه قال :" لأغْويَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ " ؟ فالجواب من ثلاثة أوجه تقدم منها وجهان في الاعتذار عما قاله الزمخشري.
والثالث : أن المراد من قوله :" لأغوينهم " أي لأُديمنّهم على الغِوَاية كما أنّ الضالّ إذا قال له شخص : أنت على الجَادَّة فلا تترُكها، يقال : إنه يضله.
كذا ههنا، فقوله :" ما أطغيته " أي ما كان ابتداء الإطغاء مِنِّي.
قوله :" لاَ تَخْتَصِمُوا " استئناف أيضاً كأن قائلاً قال : فماذا قال الله له ؟ فأجيب : يقال لا تختصموا وقوله :" لَدَيَّ " يفيد مفهومه أنَّ الاختصام كان ينبغي أن يكون قبلَ الحضورِ، والوقوفِ بين يَدَيَّ.
قوله :" وَقَدْ قَدَّمْتُ " جملة حالية، ولا بدّ من تأويلها، وذلك أن النهي في الآخرة وتقدمه الوعد في الدنيا، فاختلف الزمنان فكيف يصح جعلها حالية ؟ وتأويلها هو أن المعنى وقد صح أني قَدَّمْتُ وزمان الصحة وزمان النهي واحدٌ.
و " قَدَّمْتُ " يجوز أن يكون " قدمت " على حاله متعدياً والباء مزيدة في المفعول أي قدمت إليكم الوعيد، كقوله تعالى :﴿تَنبُتُ بِالدُّهْنِ﴾ [المؤمنون : ٢٠] على قول من قال بزيادتها هناك.
وقيل : الباء هنا للمصاحبة، كقولك : اشْتَرْيتُ الفَرَسَ بِلِجامِهِ وسَرْجِهِ أي معه فكأنه قال : قدمت إليكم ما يجب مع الوعيد عليَّ تركه والإنذار.
٣٤


الصفحة التالية
Icon