سورة الذاريات
مكية وهي ستون آية، وثلاثمائة وستون كلمة، وألف ومائتان وتسعة وثمانون حرفا.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٥٥
قوله تعالى :﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً﴾ أول هذه السورة مناسب لآخرها قبلها، لأنه تعالى لما بين الحشر بدلائله، وقال :﴿ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ﴾ [ق : ٤٤] وقال :﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ﴾ [ق : ٤٥] تُجْبِرهم على الإيمان، إشارة إلى إصرارهم على الكفر بعد إقامة البرهان، وتلاوة القرآن عليهم، لم يبق إلا اليمين فقال :﴿وَالذَّارِيَاتِ..
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ﴾
وقال في آخرها ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ [الذاريات : ٦٠].
فصل وفي الحكمة في القسم ههنا وجوه : أحدها : أن الكفار كانوا يَنْسبون النبي - ﷺ - للجدال، ومعرفة طرقه، وأنه عالم بفساد قولهم، وأنه يغلبهم بمعرفته بالجدال، وحينئذ لا يمكن أن يقابلهم بالأدلة، كما أن من أقام خَصْمُه عليه الدليل ولم يبق له حجة، يقول : إنه غلبني، لعلمه بالجدل وعجزي عن ذلك، وهو يعلم في نفسه أن الحق تبعي ولا يبقى للمتكلم المبرهن غير اليمين، ليقول : والله إن الأمر كما أقول ولا أجادلك بالباطل لأنه لو استدل بطريق آخر يقول خصمه فيه كقوله الأول، فلا يبقى إلا السكوت، أو التمسك بالأيمان، وترك إقامة البرهان.
٥٦
الثاني : أن العرب كانت تحترز عن الأيمان الكاذبة، وتعتقد أنها تخرب المنازل، فكان النبي - ﷺ - يكثر الإقسام، دلالة على أنه صادق ولذلك كان أمره يتزايد ويعلموا أنه لا يحلف بها كاذباً.
الثالث : أن الأيمان التي أقسم بها كلها دلائل أخرجت في صورة الأيمان لينبّه بها على كمال القدرة، كقول القائل للمنعم : وحقِّ نِعْمَتِك الكثيرة إنّي لا زال أَشْكُركَ.
فذكر النعم التي هي سبب مفيد لدوام الشكر، وإنما أخرجها مُخْرج الإيمان، إيذاناً بأنه يريد أن يتكلم بكلام عظيم فيصغي إليه السامع أكثر ما يصغي إليه حيث يعلم أن الكلام ليس بمعتبر فبدأ بالحلف.
فصل أورد القسم على أمور منها الوحدانية، ولظهور أمرها واعترافهم بها حيث يقولون :﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [الزمر : ٣] وقولهم :﴿مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لقمان : ٢٥] لم يقسم عليها إلا في سورة الصافات ومنها الرسالة وهو في سورتين " وَالنَّجْمِ " " وَالضُّحَى "، وبالحروف في " يس " ومنها الحشر، والجزاء وما يتعلق به، فلكثرة إنكارهم له كرر القسم عليه.
فصل أقسم الله بجمع السلامة المؤنث في سور خمس، ولم يقسم بجمع السلامة المذكر في سورةٍ أصلاً، فلم يقل : والصَّالِحِينَ من عبادي، ولا المقربين إلى غير ذلك مع أن المذكر أشرف ؛ لأن جموع السلامة بالواو والنون في الغالب لمن يعقل.
٥٧
فصل روي عن علي - (رضي الله عنه) - في قوله تعالى :﴿وَالذَّارِيَاتِ﴾ قال هي الرياح التي تَذْرُو التُّراب يقال : ذَرَتِ الرِّيحُ التُّرَابَ وأَذْرَتْ " الحَامِلاَت وقْراً " يعني السحاب تحمل ثِقْلاً من الماء " فَالجَارِيَاتِ يُسْراً " هي السفن تجري في الماء جرياً سهلاً " فَالمُقَسِّماتِ أَمْراً " هي الملائكة يقسمون الأمور بين الخلق على ما أمروا به، أقسم بهذه الأشياء، لما فيها من الدلالة على صنعته وقدرته.
قال ابن الخطيب : والأقرب أن هذه صفات للرياح، فالذاريات هي التي تُنشئ السحاب أولاً، والحاملات هي التي تحمل السحب التي هي بحار المياه التي إذا سحّتْ جرت السيول العظيمة، وهي أوقارٌ أثقل من جبال.
والجاريات هي التي تجري السحب عِنْدَ حَمْلِها، وَالمُقَسِّمَات هي الرياح التي تقسم الأمطار وتفرقها على الأقطار، ويحتمل أن يقال : هذه أمور أربعة ذكرت لأمور أربعة بها تتم الإعادة، لأن الأجزاء المتفرقة بعضها في تُخُوم الأرض، وبعضها في قَعْر البِحَار، وبعضها في جَوِّ الهواء، وفي الأجزاء البخارية اللطيفة المنفصلة عن الأبدان فالذاريات هي التي تجمع الذرات من الأرض، وتَذْرُو التُّراب من وجه الأرض والحاملات هي التي تجمع الأجزاء من الجو وتحمله حملاً، فإن التراب لا ترفعه الرياح حملاً مستقلاًّ بل تنقله من موضع إلى موضع، بخلاف السحاب فإنه يحمله في الجو حملاً لا يقع منه شيء، والجاريات هي الجامعة من الماء، فإن من يُجْرِي السفنَ الثقيلة في تيّار البحار قادرٌ على نقل الأجزاء من البحر إلى البرّ، فإذن تبين أن الجمع من الأرض وجو الهواء ووسط البحار ممكن، وإذا اجتمع ذلك كله بَقِيَ نفخُ الروح، وهي من أمر الله، فقال :" فالمُقسِّمَاتِ أَمْراً " يعني الملائكة التي تنفخ الروح في الجسد بأَمْر الله.
قوله :" ذَرواً " منصوب على المصدر المؤكد العامل فيه فرعه وهو اسم الفاعل، والمفعول محذوف اختصاراً إذ لا نظير لما تذروه هنا.
وأدغم أبو عمرو وحمزة تاء " الذاريات " في ذال " ذَرْواً " وأما " وِقْراً " فهو
٥٨


الصفحة التالية
Icon