العلم وإنما قدر الله توليهم ليُضَاف الجَهْلُ إلى ذلك فيتحقق العِقَابُ.
قوله :﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ﴾ جوز مَكِّيٌّ أن يكون على بابه من التفضيل أي هو أعلم من كل أحدٍ بهذين الوصفين وبغيرهما، وأن يكون بمعنى عالِمٍ، وتقدم ذلك مراراً.

فصل المعنى أن الله عالم بالفريقين فيجازيهم.


ووجه المناسبة أن الله تعالى لَمَّا قال للنبي - ﷺ - أعرض وكان النبي - عليه الصلاة والسلام - شديد الميل إلى إيمان قومه كأنه هجس في خَاطِرِه أن في ذكراهم منفعة، وربما يؤمن من الكفار قومٌ آخرون من غير قتال، فقال له :" ربك أعلم بمن ضل عن سبيله " أي لا يؤمن بمجرد الدعاء أحد المتخلفين وإنما ينفع فيهم وَقْع السيف والقتال فأعرض عن الجدال، وأقبل على القتال.
وعلى هذا فقوله :" بِمَنِ اهْتَدَى " أي علم في الأزل من ضل ومن اهتدى فلا يشتبه عليه الأمر، ولا بأسَ في الإعراض.
فإن قيل : قال في الضلال عن سبيله ولم يقل في الاهتداء إلى سبيله.
فالجواب : أنَّ الضلال عن السبيل هو الضلال وهو كافٍ في الضَّلال، لأن الضّلال لا يكون إلاَّ في السبيل وأما بعد الوصول فلا ضلالَ، أو لأن من ضلَّ عن سبيله لا يصل إلى المقصود سواء سلك سبيلاً أو لم يَسْلُكْهُ وأما من اهتدى إلى سبيل فلا وصول له إن لم يسلكه فقال من اهتدى إلى السبيل وسلوكه.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ١٨٨
قوله تعالى :﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ وهذا معترض بين الآية الأولى وبين قوله :﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ﴾.
واللام في قوله :" لِيَجْزِي " فيها أوجه : أحدها : أن يتعلق بقوله :﴿لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ﴾ [النجم : ٢٦] ذكره مكّي.
وهو بعيد من حيثُ اللَّفْظ ومن حيث المعنى.
١٩٣
الثاني : أن يتعلق بما دل عليه قوله :﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ أي له ملكهما يضلّ من يشاء ويهدِي من يشاء ليجزي المُحْسِنَ والْمُسِيءَ.
الثالث : أن يتعلق بقوله :" بِمَنْ ضَلَّ، وَبِمَن اهْتَدَى " واللام للصيرورة أي عاقبة أمرهم جميعاً للجزاء بما عملوا.
قال معناه الزمخشري.
الرابع : أن يتعلق بما دل عليه قوله :﴿أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ﴾ [النجم : ٣٠] أي حفظ ذلك لِيَجْزِيَ.
قاله أبو البقاء.
وقرأ زيد بن علي : لِنَجْزِي بنون العظمة والباقون بياء الغيبة.
وقوله :" الَّذِينَ أحْسَنُوا " وحَّدُوا ربهم " بالْحُسْنَى " بالْجَنَّة.
وإنما يقدر على مجازاة المحسن والمسيء إذا كان مالكاً فلذلك قال تعالى :﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾.
قوله :" الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ " يجوز أن يكون منصوباً بدلاً أو بياناً أو نعتاً " لِلَّذِينَ [(أحْسَنُوا).
فإن قيل : إذا كان بدلاً عن " الَّذِينَ] أحْسَنُوا " فَلِمَ خالف ما بعده بالمُضِيِّ والاستقبال حيث قال " الَّذِين أحْسَنُوا " وقال :" الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ " ولم يقل : اجْتَنَبُوا ؟ فالجواب : هو كقول القائل : الَّذِينَ سَأَلُونِي أعْطَيْتُهُم الذين يترددون إليَّ سائلين أي الذين عادتهم التَّرداد للسؤال سألوني وأعطيتهم فكذلك ههنا أي الذين عادتهم ودأبهم الاجتناب لا الذين اجتنبوا مرة واحدة.
ويجوز أن يكون الموصول منصوباً بإضمار " أَعْنِي "، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي هم الذين، وهذا نعت للمحسنين.
وقد تقدم الكلام في كبائر وكبير الإثْم.
قوله :" إلاَّ اللَّمَمَ " فيه أوجه :
١٩٤
أحدها : أنه استثناء منقطع ؛ لأن اللمم الصغائر فلم يندرج فيما قبلها.
وهذا هو المشهور.
الثاني : أنه صفة، و " إلاَّ " بمنزلة غير كقوله :﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء : ٢٢] أي كبائر الإثم والفواحش غيرَ اللَّمم.
الثالث : أنه متصل.
وهذا عند من يفسر اللّمم بغير الصغائر، قالوا : إن اللَّمَمَ من الكبائر والفواحش قالوا : معنى الآية إلا أن يلم بالفاحشة مرة ثم يتوب وتقع الواقعة ثم ينتهي.
وهو قول أبي هريرةَ ومجاهدٍ والْحَسَن ورواية عطاء عن ابْن عَبَّاس، قال عبد الله بن عمرو بن العاص : اللَّمم ما دون الشرك.
قال السدي : قال أبو صالح : سئلت عن قول الله عزّ وجلّ : إلاَّ اللَّمم فقلت : هو الرجل يلم الذنب ثم لا يُعَاودُه، فذكرت ذلك لابن عباس فقال : أعانك عليها ملكٌ كريمٌ.
وروى ابن عباس - (رضي الله عنهما) في قوله : إلاَّ اللمم قال رسول الله - ﷺ - : ٤٥٦٢ - إنْ تَغْفِر اللَّهُمّ تَغْفِرْ جَمَّا
وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لاَ أَلَمَّا ؟
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ١٩٣


الصفحة التالية
Icon