ذكر ههنا :﴿فكيف كان عذابي ونذر﴾ مرتين، فالأول سؤال، كقول المعلم للمتعلم : كَيْفَ المَسْأَلَةُ الفُلاَنِيَّةُ ؟ ثم بين فقال :" إِنَّا أَرْسَلْنَا "، والثاني بمعنى التعظيم والتهويل.
فإن قيل : قال في قوم نوح : كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ولم يقل في عاد : كَذَّبَتْ قَوْمُ هُودٍ ؛ لأن التعريف كلما أمكن أن يؤتى به على وجه أبلغ فالأولى أن يؤتى به والتعريف بالاسم العلم أقوى من التعريف بالإِضافة ؛ لأنك إذا قلت :" بَيْتُ اللَّهِ " لا يفيد ما يفيد قولك : الكَعْبَةُ، وكذلك إذا قلت : رَسُولُ اللَّهِ وقلت : محمد " فَعَادٌ " اسم علمٍ للقوم.
ولا يقال : قَوْم هُودٍ أعرف لوجهين : أحدهما : أن الله تعالى وصف عاداً بقوم هود في قوله :﴿أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ﴾ [هود : ٦٠] ولا يوصف الأظهر بالأخفى، والأخصُّ بالأعمِّ.
ثانيهما : أن قوم هو (واحد وعَادٌ قيل :) إنه لفظٌ يقع على أقوام، ولهذا قال
٢٥٣
تعالى :﴿عَاداً الأُولَى ﴾ [النجم : ٥٠] لأنا نقول : أما قوله تعالى :﴿لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ﴾ [هود : ٦٠] فليس ذلك صفة، وإنما هو بدل ويجوز في البدل أن يكون دون المُبْدَل (منه) في المعرفة، ويجوز أن يبدل من المعرفة بالنكرة.
وأما عاداً الأولى فهو لبيان تقدمهم أي عاداً الذين تقدموا، وليس ذلك للتمييز والتعريف كما تقول : مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ شَفِيعِي واللَّهُ الكَرِيمُ رَبِّي وَرَبُّ الكَعْبَة المُشَرَّفَة، لبيان الشرف، لا لبيانها وتعريفها بالشرف كقولك : دَخَلتُ الدَّار المَعْمُورَة مِنَ الدَّارَيْنِ، وخَدَمْتُ الرَّجُلَ الزَّاهِدَ مِنَ الرَّجُلَيْنِ ؛ فتبين المقصود بالوصف.
فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل : فكذبوا هوداً كما قال فكذبوا عَبْدَنَا ؟.
فالجواب : إما لأن تكذيب قوم نوح أبلغُ لطول مقامه فيهم وكثرة عِنَادِهِمْ، وإما لأن قصة عادٍ ذكرت مُخْتَصَرَةً.
قوله :﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً﴾ الصَّرْصَرُ الشَّديدة الصَّوْت من صَرْصَرَ البابُ أو القَلَمُ إِذَا صَوَّت.
وقيل : الشديدة البرد من الصَّرِّ وهو البرد وهو كله أصول عند الجمهور.
وقال مكي : أصله " صَرَّراً " من صَرَّ الشيءُ إِذا صوت، لكن أبدلوا من الراء المشددة صاداً، وهذه أقوال الكُوفِيِّين.
ومثله : كَبْكَبَ وكَفْكَفَ.
وتقدم هذا في فُصِّلَتْ وغيرها.
وقال ابن الخطيب : الصرصر هو الدائمة الهبوب من أَصَرَّ عَلَى الشَّيْءِ إِذا دَامَ وَثَبَت.
فصل ﴿يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ﴾ شديد دائم الشُّؤم استمر عليهم بنُحُوسِهِ، ولم يُبْقِ منهم أحداً إِلا أهلكه.
قيل : ذلك يوم الأربعاء في آخر الشهر.
فإن قيل : إذا كان يوم الأربعاء يَوْمَ نَحْسٍ مستمر فكيف يستجاب فيه الدعاء ؟ ! وقد جاء أن النبي - ﷺ - استجيب له فيه فيما بين الظهر والعصر.
٢٥٤
فالجواب : أن النبي - ﷺ - قال :" أتاني جبريل فقال :" إنَّ اللَّهَ يأمرك أَنْ تَقْضِي مع الشاهد " وقال : يَوْمُ الأربعاء يَوْمُ نَحْسٍ مُسْتَمِرّ.
ومعلوم أنه لم يرد أنه نحس على المصلحين بل على المفسدين، كما كانت الأيام النحسات على الكُفار، لا على نبيهم والمؤمنين.
واعلم أنه تعالى قال ههنا : إِنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً وقال في الذاريات :﴿إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾ [الذاريات : ٤١] فعرَّف الريح هناك، ونكَّرَها ههنا ؛ لأن العقم في الريح أظهر من البَرْد الذي يضرّ النبات أو الشدة التي تَعْصِفُ الأشجار، لأن الريح العقيم هي التي لا تُنْشِئ سحاباً، ولا تُلَقِّح شجراً وهي كثيرة الوقوع، وأما الريح المهلكة الباردة فقلما تُوجَد فقال : الريح العقيم أي هذا الجنس المعروف.
ثم زاده بياناً بقوله :﴿مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ﴾ [الذاريات : ٤٢] فتميزت عن الريح العقيم، وأما الصرصر فقليلة الوقوع فلا تكون مشهورة فنكَّرها.
قوله :﴿فِي يَوْمِ نَحْسٍ﴾ العامة على إضافة يَوْم إلى نَحْسٍ - بسكون الحاء - وفيه وجهان : أحدهما : أنه من إضافة الموصوف إلى صفته.
والثاني - وهو قول البصريين - أنه صفة لموصوف محذوف أي يوم عذاب نحس.
وقرأ الحسن - ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) بتَنْوِينه ووصفه بنَحْس ولم يقيِّده الزمخشري بكسر الحاء.
وقيده أبو حيان.
وقد قرئ قوله :" فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ " بسكون الحاء وكسرها، وتنوين " أيام " عند الجميع ما تقدم تقريره، و " مُسْتَمِرٍّ " صفة " ليوم " أو " نحس ".
ومعناه كما تقدم أي عليهم حتى أهلكهم، أو من المرارة.
قال الضحاك : كان مراً عليهم وكذا حكى الكسائي أن قوماً قالوا هو من المرارة يقال : مَرَّ الشَّيْءُ، وأَمَرَّ أي كان كالشيء المر تكرهه النفوس، وقد قال :﴿فَذُوقُواْ﴾ [آل عمران : ١٠٦] والذي يُذَاقُ قَدْ يكونُ مُرًّا.
٢٥٥