فصل ذكر في الآية مباحث : منها : قوله تعالى :﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾.
اعلم أن هذه الآية ذكرت في ثلاثة مواضع ذكرها في حكاية نوح بعد بيان العذاب، وذكرها هنا قبل بيان العذاب، وذكرها في حكاية عاد قبل بيانه وبعد بيانه، فحيث ذكر قبل بيان العذاب فَلِلْبَيَانِ كقول العارف بحكايته لغير العارف : هَلْ تَعْلَمُ كَيْفَ كَانَ أَمْرُ فُلان ؟ وغرضه أن يقول : أخبرني عنه.
وحيث ذكرها بعد بيان العذاب ذكرها للتعظيم كقول القائل : ضرب فُلاَنٌ أَيَّ ضَرْب وأيّما ضرب، وتقول : ضَرَبْتُهُ وكَيْفَ ضَرَبْتُهُ أي قويًّا.
وفي حكاية عاد ذكرها مرتين للبيان والاستفهام ومنها في حكاية نوح ذكر الذي للتعظيم، وفي حكاية ثمود ذكر الذي للبيان، لأن عذاب قوم نوح كان بأمر عظيم عام وهو الطوفان الذي عم العالم ولا كذلك عذاب قوم (هود) فإنه كان مختصاً بهم.
فصل اعلم أن الله تعالى ذكر في هذه السورة خمس قصص، وجعل القصة المتوسطة مذكورة على أتمِّ وجه ؛ لأن حال صالح كان أكثرها مشابهةً بحال محمد - عليهما الصلاة والسلام - لأنه أتى بأمر عجيب أَرْضِيٍّ، وكان أعجب مما جاء به للأنبياء، لأن عيسى عليه الصلاةُ والسَّلاَمُ، أحيا الميت لكن الميت كان محلاً للحياة فقامت الحياة بإذن الله في محل كان قابلاً لها وموسى - عليه الصلاة والسلام - انقلبت عصاه ثُعْبَاناً فأثبت الله له في الخشب الحياة بإذن الله ؛ لكن الخشبة نبات كان له قوة في النمو فأشبه الحيوان في النمو، وصالح - عليه الصلاة والسلام - كان الظاهر في يده خروج الناقة من الحجر، والحجر جماد، وليس محلاً للحياة، ولا محلاً للنمو والنبي - عليه الصلاة والسلام - أتى بأعجبَ من الكُلِّ، وهو التصرف في الجرْم السَّماويِّ الذي يقول المشرك : لا وصول لأحد إلى السماء، وأما الأرضيات فقالوا : إنها أجسام مشتركة المواد يقبل كلُّ واحد منها صورة الأخرى، والسماوات لا تقبل ذلك فلما أتى بما اعترفوا بأنه لا يقدر على مثله آدَمِيٌّ كان أتم وأبلغ من معجزة صالح - عليه الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - التي هي أتم من معجزة سَائر الأنبِياء غير محمد - عليه الصَّلاة والسلام -.

فصل من قرأ المُحْتَظَر - بفتح الظاء - أراد الحظيرة، ومن قرأ بالكسر أراد صاحب الحظيرة.


ونقل القرطبي عن صاحب الصِّحَاح، قال : من كسر جعله الفاعل، ومن فتح
٢٦٧
جعله المفعول، ويقال للرجل القليل الخير : إنَّه لَنَكِدُ الحَظِيرَةِ.
قال أبو عبيدة : أراه سمى أمواله حظيرة، لأنه حظرها عنده ومنعها، وهي فعيلة بمعنى مفعولة.
وقال المَهْدَوِيُّ : من فتح الظاء من المُحْتَظَر فهو مصدر، والمعنى كهشيم الاحتظار.
ويجوز أن يكون المحتظر هو الشجر المتخذ منه الحظيرة، قال ابن عباس ( - رضي الله عنهما - ) : المحتظر هو الرجل يجعل لغنمه حظيرةً بالشجر والشوك فما سقط من ذلك وداسته الغَنَم فَهُوَ الهَشِيمُ قال : ٤٦٠٦ - أَثَرْنَ عَجَاجَةً كَدُخَانِ نَارٍ
تَشِبُّ بِغَرْقَدٍ بَالٍ هَشِيمِ
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٢٥٩
وعنه : الحشيش تأكله الغنم، وعنه أيضاً : كالعظام النَّخِرة المحترقة.
وهو قول قتادة.
وقال سعيد بن جبير : هو الترابُ المتناثر من الحِيطَان في يوم ريح.
وقال سفيان الثوري : هو ما تناثر من الحظيرة إذا ضَرَبْتَهَا بالعصا، وهو فَعِيلٌ من مَفْعُولٍ.
وقال ابن زيد : العرب تسمي كل شيء كان رطباً فيَبِسَ هشيماً والحَظْر المنع.
والمُحَتَظرُ المُفْتَعَلُ يقال منه : احْتَظَرَ على إِبِلِهِ، وحظر أي جمع الشجر بعضَه على بعض ليمنع برد الريح والسِّباع عن إبله، قال الشاعر : ٤٦٠٧ - تَرَى جِيفَ المَطِيِّ بِجَانِبَيْهِ
كَأَنَّ عِظَامَهَا خَشَبُ الْهَشِيمِ
وعن ابن عباس - ( رضي الله عنهما - ) أيضاً : أنهم كانوا مثل القمح الذي دِيسَ وهُشِمَ -.
(والهشيم :) فُتَات السُّنْبُلَةِ والتِّبْن.
روى أَبُو الزُّبَيْرِ عن جابر قال :" لما نزلنا الحِجْر في مَغْزَى رسول الله - ﷺ - تبوك، قال : أيها الناس لا تسألوني الآياتِ، هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث لهم ناقةً،
٢٦٨
فبعث الله عزّ وجلّ إليهم الناقةَ وكانت ترد من ذلك الفجّ فتشرب ماءهم يوم ورْدِها ويحلبون منها مثل الذي كانوا يشربون منها يوم غِبِّها ".
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٢٥٩
قوله تعالى :﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ﴾ أخبر عن قوم لوط لما كذبوا لوطاً.
ثم قال :﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً﴾ والحاصب فاعل من حصب إذا رَمَى بالحَصَا وهي الحجارة.
وقال النَّضْرُ : الحَاصِبُ الحَصْبَاءُ في الرِّيح.
وقال أبو عبيدة : الحاصب الحِجارة.
وفي الصِّحاح : الحَاصِبُ الريح الشديدة التي تثير الحَصْبَاء، وكذلك الحَصْبَةُ، قال لَبيدٌ : ٤٦٠٨ - جَرَّتْ عَلَيْهَا أَنْ خَوَتْ مِنْ أَهْلِهَا
أَذْيَالَها كُلُّ عَصُوفٍ حَصِبَهْ


الصفحة التالية
Icon