وقال ابن الخطيب : قولهم :" جميعٌ " يحتمل الكثرة، والاتّفاق، ويحتمل أن يكون معناه نحن جميع الناس إشارة إلى أن من آمن لا عبرة به عندهم كقول قوم نوح :﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ﴾ [الشعراء : ١١١] فيكون التنوين فيه عوضاً من الإضافة.
وأفرد منتصر مراعاةً للفظ " جميع " أو يكون مرادهم كل واحد منتصر كقولك : كُلُّهُمْ عَالِمٌ أي كل واحد فيكون المعنى أن كل واحد منا غالب ؛ فردّ الله تعالى عليهم بأنهم يهزمون جَمِيعُهُمْ.
قوله :" سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ " العامة على سَيُهْزَمُ مبنياً للمفعول و " الجَمْعُ " مرفوعٌ به.
وقرئ : سَتَهْزِمُ بتاء الخطاب، خطاباً للرسول - عليه الصلاة والسلام - " الْجَمْعَ " مفعول به.
وأبو حيوة في رواية يعقوب : سَنَهْزِمُ بنون العظمة، و " الْجَمْعَ " منصوب أيضاً.
وابْنُ أَبِي عَبْلَةَ : سَيَهْزِمُ بياء الغيبة مبنياً للفاعل (الجَمْعَ) منصوب أي سيَهْزِمُ اللَّهُ.
و " يُوَلُّونَ " العامة على الغيبة.
وأبو حيوة وأبو عمرو - في رواية - وتُوَلُّونَ بتاء الخطاب، وهي واضحة والدُّبُر هنا اسم جنس، وحسن هنا لوقوعه فاصلةً بخلاف :﴿لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ﴾ [الحشر : ١٢].
وقال الزمخشري : أي الأدبار، كما قال : ٤٦١١ - كُلُوا فِي بَعْضِ بطْنِكُمُ تَصِحُّوا
............................
وقرئ الأدبار.
قال أبو حيان : وليس مثل بعضِ بَطْنِكمْ ؛ لأن الإفراد هنا له محسّن، ولا محسن لإِفراد بَطْنِكُمْ.
٢٧٦
قال ابن الخطيب : وأفْردَ " الدُّبُرُ " هنا وجُمع في غيره ؛ لأن الجمع هو الأصل، لأن الضمير ينوب مناب تَكْرار العاطف فكأنه قيل : تولى هذا وهذا.
وأفرد لمناسبة المقاطع.
وفيه إشارة إلى أن جميعهم يكونون في الانهزام كشخص واحد، وأما قوله :﴿فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ﴾ [الأنفال : ١٥] فجمع لأن كل واحد برأسه منهيّ عن رأسه، وأما قوله :﴿وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ﴾ [الأحزاب : ١٥] أي كل واحد قال : أنا أثبت ولا أوَلِّي دُبُرِي.
فصل قال مقاتل : ضرب أبو جهل فرسه يوم بدر فتقدم من الصف وقال : نحن نَقْتَصُّ اليومَ من مُحَمَّد وأصحابِهِ فأنزل الله تعالى :﴿نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ﴾.
وقال سعيد بن المسيب :" سمعت عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يقول : لما نزل : سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّون الدُّبُرَ كنت لا أدري أي جمع يهزم فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله - ﷺ - يثب في درعه ويقول :" سَيُهْزَمُ الجَمْع وَيُوَلُّون الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ " أعظم نائبةً وأشدّ مرارةً من الأسر والقتل يوم بدر "، وفي رواية " أن النبي - ﷺ - كان يَثِبُ في دِرْعِهِ ويقول :" اللَّهُمَّ إنَّ قُرَيْشاً حَادَّتْكَ وتُحَادّ رَسُولَكَ بفَخْرِهَا بخَيْلِهَا فَأَخْنِهِمْ العَدَاوَةَ "، ثم قال :" سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ " وقال عمر - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) - : فَعَرَفْتُ تَأْويلهَا.
وهذا من معجزات رسول الله - ﷺ - لأنه أخبر عن غيب فكان كما أخبر قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبعُ سِنينَ، فالآية على هذا مكية.
وفي البخاري عن عائشةَ أمِّ المؤمنين - (رضي الله عنهما) - قالت : لقد أنْزِلَ على مُحَمَّد - ﷺ - بمكة، وإني لجارية ألعبُ :﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾.
" وعن ابن عباس ( - رضي الله عنهما - ) أن النبي ﷺ - قال وهو في قُبَّةٍ له يوم بدر :" أَنْشُدُكَ عَهْدَك ووَعْدَكَ، اللَّهمَّ إنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ اليَوْم أبداً ".
فأخذ أبو بكر بيده وقال : حَسْبُك يا رسول الله قد أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّك وهو في الدِّرع فخرج وهو يقول : سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيولُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ".
٢٧٧
﴿بل الساعة موعدهم﴾ يريد يوم القيامة ﴿والساعة أدهى وأمر﴾ مما لَحِقَهُمْ.
فصل " أدْهَى " من الداهية وهي الأمر العظيم يقال : أَدْهَاهُ أَمْرُ كَذَا أي أصابه دَهْواً ودَهْياً.
وقال ابن السِّكِّيت : دَهَتْهُ دَاهِيَةٌ دَهْوَاءُ ودَهْيَاءُ، وهي توكيد لها.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٢٧٤


الصفحة التالية
Icon