قوله :﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ﴾ قيل : في ضلال بعد عن الحق.
قال الضحاك : وسعر أي نار تسعّر عليهم.
وقيل : ضلال ذهب عن طريق الجنة في الآخرة.
وسُعُر جمع سَعِير : نار مستعرة.
وقال الحسين بن الفضل : إن المجرمين في ضلال في الدنيا ونارٍ في الآخرة.
قال قتادة : في عناء وعذاب.
ثم بين عذابهم فقال :﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ﴾ ويقال لهم :﴿ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ﴾.

فصل أكثر المفسرين على أن هذه الآية في القَدَرِيَّة.


وفي الحديث : أَنَها نزلت في القَدَرِيَّة.
وعن النبي - ﷺ - أنه قال :" مَجُوسُ هَذِه الأُمَّةِ القَدَرِيَّةُ فَهُمُ المُجُرِمُونَ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى في قوله :﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ﴾ ".
واعلم أن الجَبْريَّ من يقول : القدريُّ من يقول الطاعة والمعصية بفعلِي فهم ينكرون القَدَر.
والفريقان متّفقان على أن السُّنِّيَّ القائلَ بأن الأفعال خلق الله وبسببٍ من العبد ليس بقَدَرٍ.
قال ابن الخطيب : والحقُّ أن القَدَرِيَّ هو الذي يُنْكِرُ القَدَرَ، ويَنْسِبُ الحوادث لاتصال الكواكب لما رُوِيَ أنَّ قريشاً خَاصَمُوا في القَدَر ومذهبهم أن الله مكَّن العبد مِن الطاعة والمعصية، وهو قادر على خلق ذلك في العبد، وقادر على أن يُطْعِمَ الفَقِيرَ، ولهذا قالوا :﴿أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾ [يس : ٤٧] منكرين لقدرته تعالى على
٢٧٨
الإِطعام.
وأما قوله - عليه الصلاة والسلام - :" القَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأمة " فإِن أريد بالأمة المرسل إليهم مطلقاً كالقَوْم، فالقدرية في زمانه هم المشركون المنكرون قدرته على الحوادث، فلا يدخل فيهم المعتزلة.
وإن كان المراد بالأمة من آمن به - عليه الصلاة والسلام - فمعناه أن نسبة القدرية إليهم كنسبة المَجُوس إلى الأمة المتقدمة، فإن المجوس أضعفُ الكَفَرَة المتقدمين شبهةً وأشدّهم مخالفةً للعقل، وكذا القدرية في هذه الأمة وكونهم كذلك لا يقتضي الجَزْم بكونهم في النار.
فالحق أن القدريَّ هو الذي يُنْكِر قدرةَ الله تَعَالَى.
فصل روى مُسْلِمٌ عن أبي هريرة، قال : جاءَ مشركو قريش يخاصمون رسول الله - ﷺ - في القدر، فنزلت هذه الآية :﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ﴾ إلى قوله :﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر : ٤٩].
وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله - ﷺ - يقول :" كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الخَلاَئِقِ كُلَّهَا مِنْ قَبْلِ أن يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بخَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ قال : وَعَرْشُهُ عَلَى الماء " وعن طاوس اليماني قال : أدركت ما شاء الله من أصحاب رسول الله - ﷺ - يقولون : كُلّ شيء بقدر الله.
وسمعت من عبد الله بن عمرو يقول : قال رسول الله - ﷺ - " كُلُّ شَيْءٍ بقَدَرٍ حَتَى العَجْزُ والكَيْسُ أو الكَيْسُ والعَجْزُ ".
وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله : لا يؤمن بالله عبدٌ حتى يؤمن بأربع : يشهدُ أن لا إلهَ إلا اللَّه، وأَنِّي رسولُ الله بَعَثَنِي بالحقِّ ويؤمن بالبعث بعد الموت ويؤمن بالقَدَر.
وزاد عُبَيْدُ الله : خَيْرِهِ وشَرِّهِ.
وهذه الأدلة تبطل مذاهب القدرية.
قوله :" ذُوقُوا " فيه إضمار القول.
وقرأ أبو عمرو - في رواية محبوب عنه - مَسَّقَرَ.
وخطَّأَهُ ابنُ مجاهد، وهو معذُورٌ ؛ لأن السِّين الأخيرة من " مَسَّ " مدغم فيها فلا تدغم في غيرها لأنه متى أدغم فيها لزم تحريكها ومتى أدغمت هي لزم سكونها فتَنَافَى الجمعُ بينهما.
٢٧٩
قال أبو حيان : والظَّنُّ بأبي عمرو أنه لم يُدْغِمْ حتى حذفَ أحد الحرفين لاجتماع الأمثال ثم أدغم.
قال شهاب الدين : كلام ابن مجاهد إنما هو فيما قالوه أنه أدغم أما إِذا حَذَف وأدغم فلا إِشكال.
و(سَقَرُ) علم لجهنّم أعَاذَنَا الله منها، مشتقة من سَقَرَتْهُ الشَّمْسُ والنارُ أي لَوَّحَتْهُ.
ويقال : صَقَرَ بالصاد، وهي مبدلة من السين لأجلِ القاف.
قال ذو الرمة : ٤٦١٢ - إِذَا ذَابَت الشَّمْسُ اتَّقَى صَقراتِهَا
بِأَفْنَانِ مَرْبُوع الصَّرِيمَةِ مُعْبِل
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٢٧٨


الصفحة التالية
Icon