قوله تعالى :﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ غلب من يعقل على غيره، وجميعهم مراد.
والضمير في " عليها " للأرض.
قال بعضهم : وإن لم يجر لها ذكر، كقوله :﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ [ص : ٣٦].
ورد هذا بأنه قد تقدم ذكرها في قوله :﴿وَالأَرْضَ وَضَعَهَا﴾ [الرحمن : ١٠].
وقيل : الضمير عائد إلى الجارية.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة : هلك أهل الأرض.
فنزلت ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ [القصص : ٨٨] فأيقنت الملائكة بالهلاك.
وقاله مقاتل.
ووجه النعمة في فناء الخلق : التسوية بينهم في الموت.
وقيل : وجه النِّعمة أن الموت سبب النَّقل إلى دار الجزاء والثواب.
قوله :﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ أي ويبقى الله، فالوجه عبارة عن وجود ذاته سبحانه وتعالى.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : الوجه عبارة عنه، كما قال ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ﴾.
ويقال : هذا وجه الأمر، ووجه الصواب، وعين الصواب، ومعنى ﴿ذو الجلال والإكرام﴾ أي : هو أهل لأن يكرم، وهذا خطاب مع كل سامع.
وقيل : خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل : كيف خاطب الاثنين بقوله :﴿فَبِأَيِّ آلا ااءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.
وخاطب هاهنا الواحد فقال :﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾، ولم يقل :" وجْه ربِّكُمَا " ؟.
فالجواب : أن الإشارة هاهنا وقعت إلى فناء كل أحد، فقال :﴿ويبقى وجه ربك﴾ أيها السامع ليعلم كل أحد أن غيره فانٍ، فلو قال : ويبقى وجه ربكما، لكان كل أحد يخرج نفسه، ورفيقه المخاطب عن الفناء.
فإن قيل : فلو قال :" ويبقى وجه الرّب " من غير خطاب، كان أدَلَّ على فناء الكل ؟.
فالجواب : إن كان الخطاب في الرب إشارة إلى اللطف، والإبقاء إشارة إلى القهر، والموضع موضع بيان اللطف، وتعديد النعم، فلهذا قال : بلفظ الرب وكاف الخطاب.
٣٢٤
قوله تعالى :﴿ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ﴾.
العامة على " ذو " بالواو صفة للوجه، وأبي، وعبد الله :" ذي " بالياء صفة لـ " ربّك ".
وسيأتي خلاف القراء في آخر السورة إن شاء الله تعالى.
و " الجلال " : العظمة والكبرياء.
و " الإكرام " : يكرم أنبياءه وأولياءه بلُطفه مع جلاله وعظمته.
قوله تعالى :﴿يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ فيه وجهان : أحدهما : أنه مستأنف.
والثاني : أنه حال من " وجه "، والعامل فيه " يبقى " أي يبقى مسئولاً من أهل السموات والأرض.
وفيه إشكال ؛ لأنه لما قال :﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ كان إشارة إلى بقائه بعد فنائه من على الأرض، فكيف يكون في ذلك الوقت مسئولاً لمن في الأرض ؟.
قال ابن الخطيب : والجواب من وجوه.
الأول : أنهم يفنون بالنظر إليه، لكنهم يبقون بإبقاءِ الله، فيصح أن يكون الله مسئولاً.
الثاني : أن يكون مسئولاً معنًى لا حقيقة ؛ لأنهم إذا فنوا فهم يسألونه بلسان الحالِ.
الثالث : أن قوله :" ويبقى " للاستمرار فهو يبقى ويعيد من كان في الأرض، ويكون مسئولاً.
الرابع : أنَّ السَّائلين هم الملائكة الذين هم في الأرض فأنهم فيها، وليسوا عليها، ولا يضرّهم زلزلتها، فعندما يفنى من عليها يبقى الله تعالى، ولا يفنى في تلك الحال الملائكة، فيسألونه ماذا نفعل ؟ فيأمرهم بما يريد.
فصل في تحرير السؤال المقصود وهذا السُّؤال إما استعطاف، وإما استعطاء، فيسأله كل أحد ما يحتاج إليه.
قال ابن عباس وأبو صالح : أهل السموات يسألونه المغفرة، ولا يسألونه الرزق، وأهل الأرض يسألونهما جميعاً.
٣٢٥
قال ابن جريج : تسأله الملائكة الرزق لأهل الأرض، فكانت المسألتان جميعاً من أهل السماء، وأهل الأرض لأهل الأرض.
قال القرطبي :" وفي الحديث :" إنَّ مِنَ الملائكةِ ملكاً لهُ أربعةُ أوجهٍ، وجهٌ كوجْهِ الإنسانِ وهو يَسْألُ اللَّه الرِّزْقَ لِبَنِي آدَمَ، ووجهُ كوجْهِ الأسَدِ وهو يسألُ الله الرِّزْقَ للسِّباع، ووجْه كوجه الثَّوْر وهو يسألُ الله الرِّزْق للبهَائِمِ، ووجْه كوجْهِ النَّسْر وهو يَسْأَلُ الله الرِّزْق للطَّيْرِ " وقال ابن عطاء : إنهم يسألونه القوة على العباد.
قوله تعالى :﴿كُلَّ يَوْمٍ﴾ منصوب بالاستقرار الذي تضمنه الخبر، وهو قوله :" فِي شأن ".
والشأن : الأمر.
فصل في تفسير هذه الآية روى أبو الدرداء عن النبي ﷺ قال :" " كُلَّ يوم هُوَ في شأنٍ " قال :" مِنْ شَأنِه أن يَغْفِرَ ذَنْباً، ويُفَرِّجَ كُرْبَةً، ويرفعَ أقواماً، ويضع آخرين " وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي ﷺ في قول الله عز وجل :﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ قال : يَغْفِرُ ذَنْباً، ويكْشِفُ كَرْباً ويُجِيْبُ داعياً.
وقيل : من شأنه أنه يُحْيي ويميت، ويعزّ ويذلّ، ويرزق ويمنع.
وقال ابن بحر : الدّهر كله يومان : أحدهما : مدة أيام الدنيا.
٣٢٦


الصفحة التالية
Icon