وفي حديث النبي ﷺ " أنه لما بايع الأنصار ليلة " العقبةِ "، صاح الشيطان : يا أهل الجباجب هذا مُذمَّمٌ يبايع بني " قيلة " على حربكم، فقال النبي ﷺ :" هذا أزَبّ العقبة، أما والله لأتفرَّغن لك " أي : أقصد إلى إبطال أمرك.
وهذا اختيار القتبي والكسائي وغيرهما.
قال ابن الأثير : الأزَبُّ في اللغة : الكثير الشعر، وهو هاهنا شيطان اسمه " أزب العقبة " وهو الحيّة.
وقيل : إن الله - تعالى - وعد على التقوى، وأوعد على الفُجُور، ثم قال :﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ﴾ أي : مما وعدناكم، ونوصل كلاًّ إلى ما وعدناه، أقسم ذلك وأتفرغ منه.
قاله الحسن، ومقاتل، وابن زيد.
قوله تعالى :﴿أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ﴾.
تقدم الكلام في قراءة " أيُّهَا " في " النور " [النور : ٣١] وهو منادى، والحكمة في نداء المُبْهَم هي تنبيه كل سامع، ثم يخصص المقصود بعد ذلك، فيكون فيه اهتمام بالمنادى.
وأيضاً يجعل المبهم وصلة لنداء المعرف باللام، وزيد معه هاء التي للتَّنبيه عوضاً عن الإضافة ؛ لأن المبهم يضاف.
و " الثَّقلان " الجنّ والإنس، سُمِّيَا بذلك لعظم شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من غيرهما بسبب التكليف.
وقيل : سمّوا بذلك ؛ لأنهما ثقلا الأرض أحياء وأمواتاً.
قال تعالى :﴿وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ [الزلزلة : ٢].
ومنه قولهم : أعطهِ ثقله أي وزنه.
وقال بعض أهل المعاني : كل شيء له قَدْر ووزن ينافس فيه فهو ثقل، ومنه قيل لبيض النعام : ثقل، لأن واجده وصائده يفرح به إذا ظفر به.
وقال جعفر الصادق : سميا ثقلين ؛ لأنهم مثقلان بالذنوب.
وقيل : الثَّقَل الإنس لشرفهم، وسمّي الجن بذلك مجازاً للمجاورة والتغليب كالعَمريْن والقَمريْن والثَّقَل : العظيم الشريف.
قال عليه الصلاة والسلام :" إنِّي تاركٌ فيكم ثقلينِ : كتاب اللَّهِ وعترتِي ".
٣٢٩
فصل في سبب التثنية بعد الجمع جمع في قوله تعالى :﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ﴾ ثم قال :﴿أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ﴾ ؛ لأنهما فريقان، وكل فريق جمع، وهذا كقوله تعالى :﴿يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ﴾، ولم يقل " إن استطعتما " ؛ لأنهما فريقان في حال الجمع، كقوله تعالى :﴿فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ﴾ [النمل : ٤٥].
وقوله تعالى :﴿هَـاذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ﴾ [الحج : ١٩]، ولو قال : سنفرغ لكما، أو قال : استطعتما، لجاز.
وقرأ أهل " الشَّام " :" أيُّهُ الثَّقلانِ " بضم الهاء، والباقون : بفتحها.
فصل في أن الجن مكلفون هذه الآيات التي في " الأحقاف "، و ﴿قُلْ أُوحِيَ﴾ [الجن : ١] دليل على أن الجن مخاطبون مكلفون مأمورون منهيّون مثابون معاقبون كالإنس سواء، مؤمنهم كمؤمنهم، وكافرهم ككافرهم.
قوله تعالى :﴿يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ﴾ [الرحمن : ٣٣] الآية.
لما بين أن الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن، كأن قائلاً قال : فلم أخر عذابهم ؟.
فأجيب : بأن الجميع في قبضته، وأن الذي يستعجل إنما يخاف الفوت، والجميع في قبضة الله - تعالى - فلا يفوتونه.
و " المعشر " : الجماعة العظيمة ؛ لأن المعشر هو العدد الكامل الكثير الذي لا عدد بعده إلاَّ بابتداء فيه حيث يعيد الآحاد، تقول : أحد عشر، واثنا عشر وعشرون، وثلاثون، أي ثلاث عشرات، فالمعشر كأنه في محل العشر الذي هو الكثرة الكاملة.
فإن قيل : ما الحكمة في تقديم الجنّ على الإنس هاهنا، وتقديم الإنس على الجن في قوله تعالى :﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ﴾ [الإسراء : ٨٨] ؟.
فالجواب : أن النفوذ من أقطار السموات والأرض بالجن أليق إن أمكن، والإتيان
٣٣٠