بمثل هذا القرآن بالإنس أليق إن أمكن الإتيان، فقدم في كل موضع ما يليق به.
فصل في المراد بالآية معنى الآية : إن استطعتم أن تنفذوا : تجوزوا وتخرجوا بسرعة.
والنفوذ : الخروج وقد تقدم في أول " البقرة " أن ما فاؤه نون وعينه فاء يدل على الخروج كنفق ونفر، قال تعالى :﴿يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ﴾ فاهربوا واخرجوا منها، وهذا أمر تعجيز، والمعنى : حيث ما كنتم أدرككم الموت، كما قال تعالى :﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ﴾ [النساء : ٧٨] وهو قول الضحاك.
وروى جويبر عن الضحاك أيضاً قال : يقال لهم هذا يوم القيامة، يعني : إن استطعتم أن تجوزوا أقطار السموات والأرض، فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم، فجوزوا يعني لا مهرب لكم ولا خروج لكم عن ملك الله سبحانه وتعالى، وأينما تولوا فثمَّ ملك الله.
وقال ابن عباس إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات وما في الأرض فاعلموه ولن تعلموه إلا بسلطان أي يبينه من الله عز وجل وعنه أيضاً لا تنفذون إلا بسلطان لا تخرجون من سلطاني وقدرتي عليكم وقال قتادة : لا تنفذون إلا بملك وليس لكم ملك وقيل : الباء بمعنى إلى أي إلا إلى سلطان كقوله تعالى وقد أحسن بي أي إليّ.
وقيل معناه : لا تنفذوا إلا ومعكم سلطان الله وقيل معناه : لا تتخلصون من عذاب الله إلا بسلطان يجيركم وإلا فلا مجير لكم.
قوله تعالى :﴿إِلاَّ بِسُلْطَانٍ﴾.
حال أو متعلق بالفعل قبله.
والسلطان : القوة التي يتسلّط بها على الأمر والملك والقدرة والحجة كلها سلطان، يريد : حيث ما توجهتم كنتم في ملكي.
قوله تعالى :﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ﴾.
قرأ ابن كثير : بكسر الشين والباقون : بضمها، وهما لغتان بمعنى واحد مثل :" صِوَار " من البقر، و " صُوَار " وهو القطيع من البقر.
٣٣١
و " الشُّواظ " : قيل : اللَّهب معه دخان.
وقال ابن عباس وغيره : هو اللهب الخالص الذي لا دُخان له.
وقيل : اللَّهب الأحمر.
وقيل : هو الدخان الخارج من اللهب.
وقال رؤبة رحمه الله :[الرجز] ٤٦٤٢ -.....................
ونَارَ حَرْبٍ تُسْعِرُ الشُّواظَا
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٢٤
وقال حسَّان رضي الله عنه :[الوافر] ٤٦٤٣ - هَجَوْتُكَ فاختضَعْتَ لَهَا بِذُلٍّ
بِقَافِيةٍ تأجَّجُ كالشُّوَاظِ
وقال مجاهد :" الشُّواظ " : اللَّهب الأخضر المنقطع من النَّار.
وقال الضحاك : هو الدخان الذي يخرج من دخان اللَّهب ليس بدخان الحطب.
وقاله سعيد بن جبير.
وقيل :" الشُّواظ " : النَّار والدخان جميعاً.
قاله ابن عمر، وحكاه الأخفش عن بعض العرب.
و " يُرْسَل " مبني للمفعول وهي قراءة العامة، وزيد بن علي " نرسل " بالنون شُواظاً ونحاساً بالنصب، و " من نار " صفة لـ " شواظ " أو متعلق بـ " يرسل ".
قوله :" ونُحَاس ".
قرأ ابن كثير وأبو عمرو : بجره عطفاً على " نار ".
والباقون : برفعه عطفاً على " شُواظ ".
و " النُّحَاس " : قيل : هو الصفر المعروف يذيبه الله - تعالى - ويعذبهم به.
٣٣٢
وقيل : الدخان الذي لا لهب معه.
قال الخليل : وهو معروف في كلام العرب.
وأنشد للأعشى :[المتقارب] ٤٦٤٤ - يُضِيءُ كَضَوْء السِّرَاجِ السَّلِيـ
ـطِ لَمْ يَجْعَل اللَّهُ فيهِ نُحَاسَا
قال المهدوي : من قال : إن الشواظ النار والدخان جميعاً، فالجر في " نُحَاس " على هذا بين.
فأما الجر على قول من قال : إن الشواظ اللَّهب الذي لا دخان فيه فبعيد لا يسوغ إلا على تقدير حذف موصوف كأنه قال :" يرسل عليكما شواظ من نار، وشيء من نحاس " فـ " شيء " معطوف على شواظ، و " من نحاس " جملة هي صفة لشيء، وحذف " شيء " وحذفت " من " لتقدم ذكرها في " من نار " كما حذفت " على " من قولهم : على من تنزل أنزل أي : وعليه، فيكون " نُحَاس " على هذا مجروراً بـ " من " المحذوفة، وتضم نونه وتكسر، وبالكسر قرأ مجاهد، وطلحة والكلبي، ونقله القرطبي عن حميد أيضاً، وعكرمة، وأبي العالية.
وقرأ ابن جندب :" ونَحْسٌ "، كقوله تعالى :﴿يَوْمِ نَحْسٍ﴾ [القمر : ١٩] وابن أبي بكرة، وابن أبي إسحاق :" ونَحُسُّ " بضم الحاء والسين مشددة من قوله تعالى :﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ﴾ [آل عمران : ١٥٢] أي : ونقتل بالعذاب، وقر ابن أبي إسحاق أيضاً :" ونَحس " بضم الحاء وفتحها وكسرها وجر السين، والحسن والقاضي :" ونُحُسٍ " بضمتين وجر السين.
وتقدمت قرأة زيد :" ونُحَاساً " بالنَّصْب لعطفه على " شُواظاً " في قراءته.
و " النِّحاس " أيضاً بالكسر : الطبيعة والأصل.
يقال : فلان كريم النحاس و " النُّحاس " أيضاً بالضم، أي : كريم النِّجار.
٣٣٣