روي عن قتادة : والعرب تقول للبطن : ظهراً، فيقولون : هذا بطن السماء، وظهر الأرض.
وقال الفرَّاء : قد تكون البطانة : الظهارة، والظهارة : البطانة ؛ لأنَّ كل واحد منهما يكون وجهاً، والعرب تقول : هذا ظهر السماء، وهذا بطن السماء لظاهرها الذي تراه.
وأنكر ابن قتيبة وغيره هذا، وقالوا : لا يكون هذا إلاَّ في الوجهين المتساويين إذا ولي كل واحد منهما قوماً كالحائط بينك وبين قوم، وعلى ذلك أمر السماء.
وقال ابن عباس : وصف البطائن وترك الظواهر ؛ لأنه ليس في الأرض أحد يعرف ما الظَّواهر.
فصل في أن الإستبرق معرب قال ابن الخطيب : الإستبرق معرب، وهو الدِّيْبَاج الثخين، وكما أن الديباج معرب بسبب أن العرب لم يكن عندهم ذلك إلا من العدم تصرفوا فيه، وهو أن أصله بالفارسية " ستبرك " بمعنى : ثخين، فزادوا في أوله همزة، وبدلوا الكاف قافاً، أما الهمزة فلأن حركات أوائل الكلم في لسان العجم غير مبنية في كثير من المواضع، فصارت كالسكون، فأثبتوا فيه همزة كما يجلبون همزة الوصل عند سكون أول الكلمة، ثم إنَّ البعض جعلوها همزة وصل، وقالوا :" مِن اسْتَبْرَقٍ ".
والأكثرون جعلوها همزة قطع ؛ لأن أول الكلمة في الأصل متحرك، لكن بحركة فاسدة، فأتوا بهمزة تسقط عنهم الحركة الفاسدة، وتمكنهم من تسكين الأول ؛ لأن عند تساوي الحركة العود إلى السُّكون أقرب، وأواخر الكلمات عند الوقف تسكن، ولا تبدل حركة بحركة.
وأما القافُ فلأنهم أرادوا إظهار كونها فارسية أو أعجمية، فأسقطوا منها الكاف التي هي حرف تشبيه، وعلى لسان العرب في أواخر الكلم للخطاب لو تركت الكاف لاشتبه " ستبرك " بـ " مسجدك "، إذا لحقت كاف الخطاب بهما، فلو تركت الكاف قافاً أولاً، ثم ألحقت الهمزة بأولها، وهذا ومثله لا يخرج القرآن عن كونه عربيًّا ؛ لأن العربي ما نطقت به العرب وضعاً واستعمالاً من لغة غيرها، وذلك كله سهلٌ عليهم، وبه يحصل الإعجاز، بخلاف ما لم يستعملوه من كلام العجم لصعوبته عليهم، وذكر الاتكاء ؛ لأنه حال الصَّحيح الفارغ القلب المتنعم، بخلاف المريض والمهموم.
قوله تعالى :﴿وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ﴾ مبتدأ وخبر، وأصله :" دان " مثل " غاز " فأعل كإعلاله.
٣٤٧
وقرأ عيسى بن عمر :" وجَنِي " بكسر النون.
وتوجيهها : أن يكون أمال الفتحة لأجل الألف، ثم حذف لالتقاء الساكنين، وأبقى إمالة النون نحو الكسرة وقرئ :" وجِنَى " بكسر الجيم، وهي لغة.
والجنى : ما يقطف من الثِّمار، وهو " فَعْلٌ " بمعنى " مفعول " كالقَبْضِ والقنص.
فصل في المراد بالجنى قال القرطبي :" الجنى " : ما يُجْتنى من الشجر، تقول : أتانا الشجر بجناة طيبة لكل ما يجتنى، وثمرة جنيٌّ على " فَعِيل " حين جُني.
قوله :" دانٍ " أي : قريب.
قال ابن عبَّاس : تدنو الشجرة حين يجتنيها ولي الله إن شاء قائماً، وإن شاء قاعداً، وإن شاء مضطجعاً.
وقال قتادة : لا يرد يده بعد، ولا شوك.
قال ابن الخطيب : جنة الآخرة مخالفة لجنّة الدنيا من ثلاثة أوجه : أحدها : أن الثمرة على رءوس الشجر في الدنيا بعيدة على الإنسان المتّكئ، وفي الجنة هو متكئ، والثمرة تتدلى إليه.
ثانيها : أن الإنسان في الدنيا يسعى إلى الثمرة، ويتحرك إليها، وفي الآخرة هي تدنُو إليهم، وتدور عليهم.
وثالثها : أنَّ الإنسان في الدنيا إذا قرب من ثمر شجرة بعد عن غيرها، وثمار الجنة كلها تدنو إليهم في وقت واحد، ومكان واحد.
قوله تعالى :﴿فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾.
اختلف في هذا الضمير.
فقيل : يعود على الجنات.
٣٤٨
فإن قيل : كيف تقدّم تثنيته في قوله :﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ﴾، و ﴿فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ﴾ ثم أتى بضمير جمع ؟.
فالجواب : أن أقلّ الجمع اثنان على قول، وله شواهد تقدم أكثرها، أو يقال : عائد إلى الجنَّات المدلول عليها بالجنتين.
أو يقول : كل فرد فرد له جنتان فصح أنها جنان كثيرة، وإما أن الجنة تشتمل على مجالس وقصور ومنازل، فأطلق على كل واحد منها جنة.
وقيل : يعود على الفرش.
قال الزمخشري :" فِيهِنَّ " أي : في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين، والفاكهة والفرش والجنى.
قال أبو حيان :" وفيه بُعْد " وكأنه قد استحسن الوجه الأول وفيه نظر ؛ لأن الاستعمال أن يقال : على الفراش كذا، ولا يقال : في الفراش كذا إلا بتكلّف.
فلذلك جمع الزمخشري مع الفرش غيرها حتى صح له أن يقول :" فيهن " بحرف الظرفية ؛ ولأن الحقيقة أن يكون الإنسان على الفرش لأنه مستعمل عليها.
وأما كونها فيها فلا يقال إلا مجازاً.
وقال الفراء : كل موضع في الجنة، فلذلك صح أن يقال :" فيهن ".
والقاصرات : الحابسات الطَّرف : أي يحبسن أعينهن عن غير أزواجهن.
ومعناه : قصرن ألحاظهن على أزواجهن.
قال امرؤ القيس :[الطويل] ٤٦٥٧ - مِنَ القَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مِحْوَلٌ
مِنَ الذّرِّ فوقَ الإتبِ مِنْهَا لأثَّرَا
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٤١


الصفحة التالية
Icon