والجواب : أنه كثر وقوع النكرة خبراً عن هذه الأشياء كثرة متزايدة، فاطَّرد الباب، ليجري على سنن واحدة، هكذا أجابوا.
وهذا لا ينهض مانعاً من جواز أن يكون " ما " و " كَمْ " و " أفْعَل " خبراً مقدماً ولو قيل به لم يكن خطأ، بل أقرب إلى الصَّواب.
و " الميمنة " " مَفْعَلَة " من لفظ اليمين، وكذلك " المشأمة " من اليد الشؤمى وهي الشمال لتشاؤم العرب بها، أو من الشُّؤم.
فصل في تحرير معنى الآية قال السدي :" أصحاب الميمنةِ " هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، و " أصحاب المَشْأمة " هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النَّار.
و " المَشْأمة " : الميسرة، وكذلك الشَّأمة، يقال : قعد فلان شأمة.
ويقال : شائم بأصحابك أي : خذ بهم شأمة أي : ذات الشمال والعرب تقول لليد الشمال : الشؤمى، وللجانب الشمال : الأشأم.
وكذلك يقال لما جاء عن اليمين : اليمين، ولما جاء عن الشمال : الشُّؤم.
قال البغوي :" ومنه سمي " الشَّام واليمين " ؛ لأن " اليمين " عن يمين الكعبة، و " الشام " عن شمالها ".
قال ابن عباس والسدي :" أصْحَابُ المَيْمَنَةِ " هم الذين كانوا عن يمين آدم حين أخرجت الذُّرية من صلبه، فقال الله لهم : هؤلاء في الجنة ولا أبالي ".
وقال زيد بن أسلم : هم الذين أخذوا من شق آدم الأيمن يومئذ، وأصحاب المشأمة الذين أخذوا من شق آدم الأيسر.
وقال عطاء ومحمد بن كعب :" أصْحَابُ الميمنةِ من أوتي كتابه بيمينه، وأصحاب المشأمة من أوتي كتابه بشماله ".
وقال ابن جريج :" أصحاب الميمنة " هم أصحاب الحسنات، وأصحاب المشأمة ؛ هم أهل السيئات.
٣٧٦
وقال الحسن والربيع :" أصحاب الميمنة " الميامين على أنفسهم بالأعمال الصالحة، وأصحاب المشأمة : المشائيم على أنفهسم بالأعمال السيئة.
وفي صحيح مسلم من حديث " الإسراء " عن أبي ذرٍّ عن النبي ﷺ قال :" فَلمَّا عَلوْنَا السَّماء الدُّنيا، فإذَا رجلٌ عن يَمينهِ أسْودةٌ، وعنْ يَسارِهِ أسودةٌ، قال فإذَا نظر قبل يَمينِه ضَحِكَ، وإذَا نَظَرَ قبلَ شمالِهِ بكَى، قال : فقال : مَرْحَباً بالنبيِّ الصَّالحِ والابْنِ الصَّالح، قال : فقُلْتُ : يا جِبْريلُ منْ هذَا ؟.
قال : هذا آدمُ - عليه الصلاة والسلام - وهذه الأسودةُ عن يمينه وعن شمالهِ بَنُوه فأهْلُ اليَمِينِ أهْلُ الجنَّةِ، والأسودةُ الَّتي عن شمالهِ أهْلُ النَّارِ " وذكر الحديث.
وقال المبردُ :" أصحاب الميمنة " أصحاب التقدم، وأصحاب المشأمة أصحاب التأخُّر والعرب تقول : اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك أي : اجعلني من المتقدمين ولا تجعلني من المتأخرين.
ثم عجب نبيه ﷺ فقال :﴿مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ وهذا كما يقال :" زَيْدٌ مَا زَيْدٌ "، يريد " زيد شديد " فالتكرير في ﴿مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾، و ﴿مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ﴾ للتَّفخيم والتعجُّب، كقوله :﴿الْحَاقَّةُ مَا الْحَآقَّةُ﴾ [الحاقة : ١، ٢]، و ﴿الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ﴾ [القارعة : ١، ٢] كما يقال :" زَيْدٌ ما زيدٌ ".
وفي حديث أم زرع رضي الله عنها :" مالك، وما مالك ؟ ".
والمقصود : تكثير ما لأصحاب الميمنة في الثواب، وأصحاب المشأمة من العقاب.
والفاء في قوله :" فأصْحَاب " تدل على التقسيم، وبيان ما ورد عليه التقسيم، كأنه قال : أزواجاً ثلاثة : أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة، والسابقون، وبين حال كل قسم فقال :﴿مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ وترك التقسيم أولاً، واكتفى بما يدل عليه بأن تُذكر الأقسام الثلاثة مع أحوالها.
فإن قيل : ما الحكمة في اختيار لفظ " المشأمة " في مقابلة " الميمنة " مع أنه قال في بيان أحوالهم ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشِّمَالِ﴾ ؟ [الواقعة : ٤١].
فالجواب : أنَّ اليمين وضع للجانب المعروف، واستعملوا منها ألفاظاً في مواضع فقالوا :" هذا ميمون " تيمناً به، ووضعوا مقابلة اليمين اليسار من الشيء اليسير إشارة إلى ضعفه، ولفظ الشمال في مقابلته، واستعملوا منه ألفاظاً تشاؤماً به، فذكر " المشأمة "
٣٧٧
[في] مقابلة [ " الميمنة " ] [وذكر الشمال في مقابلة اليمين] فاستعمل كل لفظ مع ما يقابله.
قوله :﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾.
فيه أوجه : أحدها : أنها مبتدأ وخبر، وفي ذلك تأويلان : أحدهما : أنه بمعنى : السابقون هم الذين اشتهرت حالتهم بذلك.
كقولهم :" أنت أنت، والناس الناس ".
وقوله :[الرجز]
٤٦٧١ - أنَا أبُو النَّجْمِ وشِعْرِي شِعْرِي