وهذا يقال في تعظيم الأمر وتفخيمه، وهو مذهب سيبويه.
التأويل الثاني : أن متعلق السابقين مختلف ؛ إذ التقدير : والسَّابقون إلى الإيمان السابقون إلى الجنة، أو السابقون إلى طاعة الله السَّابقون إلى رحمته، أو السابقون إلى الخير السابقون إلى الجنَّة.
الوجه الثاني : أن يكون السَّابقون الثاني تأكيداً للأول تأكيداً لفظيًّا، و " أولئك المُقرَّبُون " جملة ابتدائية في موضع خبر الأول، والرابط : اسم الإشارة، كقوله تعالى :﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذالِكَ خَيْرٌ﴾ [الأعراف : ٢٦]، في قراءة برفع " لِبَاس " في أحد الأوجه.
الثالث : أن يكون " السابقون " الثاني نعتاً للأول، والخبر الجملة المذكورة.
وهذا ينبغي ألا يعرج عليه، كيف يوصف الشيء بلفظه، وأي فائدة في ذلك ؟.
قال شهاب الدين : والأرقب عندي إن وردت هذه العبارة ممن يعتبر أن يكون سمى التَّأكيد صفة، وقد فعل سيبويه قريباً من هذا.
الرابع : أن يكون الوقف [على قوله] " والسَّابقون "، ويكون قوله ﴿السَّابقون، أولئك المقربون﴾ ابتداء وخبراً.
وهذا يقتضي أن يعطف " والسَّابقون " على ما قبله، لكن لا يليق عطفه على ما قبله،
٣٧٨
وإنما يليق عطفه على أصحاب الميمنة، كأنه قيل : وأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة والسابقون، أي : وما السابقون ؟ تعظيماً لهم، فيكونون شركاء أصحاب الميمنة في التعظيم، ويكون قوله على هذا :﴿وأصحاب المَشْأمة ما أصحاب المشأمة﴾ اعتراضاً بين المتعاطفين، وفي هذا الوجه تكلف كثير جداً.
فصل في المراد بالسابقين قال عليه الصلاة والسلام :" السَّابقُون الَّذينَ إذَا أعْطُوا الحقَّ قبلوهُ، وإذا سُئِلُوه بذلُوهُ، وحَكمُوا للنَّاسِ كحُكْمِهِمْ لأنفُسِهِمْ ".
ذكره المهدوي.
وقال محمد بن كعب القرظي : هم الأنبياء.
وقال الحسن وقتادة : هم السابقون إلى الإيمان من كل أمة.
وقال محمد بن سيرين : هم الذين صلّوا إلى القبلتين، قال تعالى :﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ﴾ [التوبة : ١٠٠].
وقال مجاهد والضحاك : هم السَّابقون إلى الجهاد، وأول الناس رواحاً إلى صلاة الفرائض في الجماعة وقال علي رضي الله عنه : هم السابقون إلى الصَّلوات الخمس.
وقال سعيد بن جبير : إلى التوبة، وأعمال البر، قال تعالى :﴿وَسَارِعُوا ااْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ﴾ [آل عمران : ١٣٣] ثم أثنى عليهم فقال :﴿أُوْلَـائِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون : ٦١].
وقيل : إنهم أربعة : منهم سابق أمة موسى، وهو حزقيل مؤمن آل فرعون، وسابق أمة عيسى، وهو حبيب النَّجَّار صاحب " أنْطَاكية "، وسابقان في أمّة محمد ﷺ، وهما أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - قاله ابن عباس.
حكاه المارودي.
وقال شميط بن العجلان : النَّاس ثلاثة : فرجل ابتكر للخير في حداثة سنه، ثم داوم عليه حتى خرج من الدنيا، فهذا هو السَّابق المقرب ثم طول الغفلة ثم رجع بتوبته حتى
٣٧٩
ختم له بها، فهذا من أصحاب اليمين، ورجل ابتكر عمره بالذنوب، ثم لم يزل عليها حتى ختم له بها، فهذا من أصحاب الشمال.
وروي عن كعب قال : هم أهل القرآن المتوجون يوم القيامة.
وقيل : هم أول الناس رواحاً إلى المسجد، وأولهم خروجاً في سبيل الله ﴿أولئك المقربون في جنات النعيم﴾.
قوله :﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾.
يجوز أن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون حالاً من الضمير في " المُقَرَّبُون "، وأن يكون متعلقاً به، أي : قربوا إلى رحمة الله في جنات النعيم.
ويبعد أن تكون " في " بمعنى " إلى ".
وقرأ طلحة :" في جنَّةٍ " بالإفراد.
وإضافة الجنة إلى النعيم من إضافة المكان إلى ما يكون فيه، كما يقال :" دار الضِّيافة، ودار الدَّعوة، ودار العدل ".
وذكر النعيم هنا معرفاً، وفي آخر السورة منكراً ؛ لأن السَّابقين معلومون، فعرفهم باللام المستغرقة لجنسهم، وأما هنا فإنهم غير معروفين لقوله :﴿إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ [الواقعة : ٨٨] فجعل موضعه غير معروف، أو يقال : إن المذكور هنا جميع السَّابقين، ومنزلتهم أعلى المنازل، فهي معروفة، لأنها لا حدّ فوقها.
وأما باقي المقربين فلكل واحد مرتبة ودرجة، فمنازلهم متفاوتة، فهم في جنات متباينة في المنزلة، لا يجمعها صفة، فلم يعرفها.
قوله :﴿ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ﴾.
" ثلّة " خبر مبتدأ مضمر، أي " هم ".
ويجوز أن يكون مبتدأ خبره مضمر، أي منهم ثلّة.
أي : من السابقين، يعني أن التقسيم وقع [بينهم].
وأن يكون مبتدأ خبره ﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾.
أو قوله :﴿عَلَى سُرُرٍ﴾.
فهذه أربعة أوجه.
و " الثُلّة " : الجماعة من الناس، وقيدها الزمخشري بالكثيرة.
٣٨٠
وأنشد :[الطويل] ٤٦٧٢ - وجَاءَتْ إليْهِمْ ثُلَّةٌ خِندفيَّةٌ
بِجَيْشٍ كتيَّارٍ من البَحْرِ مُزْبدِ
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٧٢


الصفحة التالية
Icon