ولم يقيدها غيره، بل صرح بأنها الجماعة قلّت أو كثرت.
وقال الرَّاغب : الثلّة : قطعة مجتمعة من الصُّوف ؛ ولذلك قيل للمقيم :" ثَلَّة " يعني بفتح الثَّاء.
ومنه قوله :[الرجز] ٤٦٧٣ - أمْرَعَتِ الأرْضُ لَوْ انّ مالا
لوْ أنَّ نُوقاً لَكَ أو جِمَالا
أوْ ثلَّةً مِنْ غَنَمٍ إمَّا لا
انتهى.
ثم قال :" ولاعتبار الاجتماع، قيل :﴿ثلّة من الأولين، وثلّة من الآخرين﴾ أي جماعة، وثللت كذا : تناولت ثلّة منه، وثلَّ عرشُه : أسقط ثلّة منه والثّلل : قصر الأسنان لسقوط ثلَّة منها، وأثل فمُه : سقطت، وتَثَلَّلَتِ الرُّكبَة : تَهَدَّمت " انتهى.
فقد أطلق أنها الجماعة من غير قيد بقلّة ولا بكثرة.
والكثرة التي فهمها الزمخشري قد تكون من السياق.
وقال الزجاج : الثلّة : الفرقة.
و " مِنَ الأوَّلِينَ " صفة لـ " ثُلَّة "، وكذلك " من الآخرين " صفة لـ " قَلِيل ".
فصل في المراد بقوله : ثلّة من الأوّلين قوله تعالى :﴿ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ﴾.
أي جماعة من الأمم الماضية.
﴿وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ﴾ أي : ممن آمن بمحمد ﷺ قال الحسن :" ثُلَّةٌ " ممن قد مضى قبل هذه الأمة، " وقليلٌ " من أصحاب محمد ﷺ اللهم اجعلنا منهم بكرمك.
وسموا قليلاً بالإضافة إلى من كان قبلهم ؛ لأن الأنبياء المتقدمين كثروا، فكثر السابقون إلى الإيمان بهم، فزادوا على عدد من سبق إلى التصديق من أمتنا.
٣٨١
(قيل : لما نزلت هذه الآية شقَّ على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) فنزلت ﴿ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ﴾ فقال النبي ﷺ :" إنِّي لأرجُو أن تكُونُوا رُبْعَ أهْلِ الجنَّةِ، بَلْ نِصْف أهلِ الجنَّة، وتُقاسِمُونهُم في النِّصْفِ الثانِي " رواه أبو هريرة ذكره المارودي وغيره، ومعناه ثابت في " صحيح مسلم "، من حديث عبد الله بن مسعود، وكأنه أراد أنها منسوخة.
قال ابن الخطيب : وهذا في غاية الضعف من وجوه : أحدها : أن عدد أمة محمد ﷺ كان في ذلك الزمان، بل إلى آخر الزمان بالنسبة إلى ما مضى في غاية القلة، فالمراد بالأولين : الأنبياء وكبار أصحابهم، وهم إذا جمعوا أكثر من السَّابقين من هذه الأمة.
الثاني : أن هذا خبر، والخبر لا ينسخ.
الثالث : أن هذه الآية في السَّابقين، والتي بعدها في أصحاب اليمين.
الرابع : أنه إذا جعل قليل منهم مع الأنبياء والرسل المتقدمين كانوا في درجة واحدة، وذلك يوجب الفرح ؛ لأنه إنعام عظيم، ولعلّ الإشارة إليه بقوله عليه الصلاة والسلام :" عُلَمَاءُ أمَّتِي كأنْبِيَاءِ بَنِي إسْرائِيْلَ ".
قال القرطبي :" والأشبه أنها محكمة ؛ لأنها خبر، والخبر لا ينسخ ؛ لأن ذلك في جماعتين مختلفتين ".
قال الحسن : سابقو من مضى أكثر من سابقينا، فلذلك قال :﴿وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ﴾، وقال في أصحاب اليمين، وهم سوى السابقين :﴿ثلّة من الأولين وثلّة من الآخرين﴾.
ولذلك [قال عليه الصلاة والسلام :" إنِّي لأرجُو أن تكُونَ أمَّتِي شطْرَ أهْلِ الجنَّةِ "، ثم تلا :﴿ثلة من الأولين، وثلة من الآخرين﴾ ].
٣٨٢
وقال أبو بكر رضي الله عنه : كلا الثُّلتين من أمة محمد ﷺ فمنهم من هو في أول أمته، ومنهم من هو في آخرها.
وهو مثل قوله تعالى :﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ اللَّهِ﴾ [فاطر : ٣٢].
وقيل : المراد ﴿ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ﴾ هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، فإن أكثرهم لهم الدَّرجة العليا، كما قال تعالى :﴿لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ﴾ [الحديد : ١٠].
﴿وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ﴾ لحقوهم، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام :" خَيْرُكُمْ قرني ثم الذينَ يَلُونَهُم " ثم سوى في أصحاب اليمين بين الأولين والآخرين.
قال ابن الخطيب : وعلى هذا فقوله :﴿وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً﴾ يكون خطاباً مع الموجودين وقت التنزيل، ولا يكون فيه بيان الأولين الذين كانوا قبل نبينا - عليه الصلاة والسلام - وهذا ظاهر ؛ لأن الخطاب لا يتعلق إلاَّ بالموجودين من حيث اللفظ، ويدخل فيه غيره بالدليل.
ووجه آخر : أن المراد بالأولين الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وبالآخرين، أي : ذرياتهم الملحقون بهم في قوله تعالى :﴿وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الطور : ٢١].
وقال الزَّجَّاج : الذين عاينوا جميع النبيين من لدُن آدم وصدقوهم أكثر مما عاين النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى :﴿عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ﴾.
أي : السَّابقون في الجنة على سرر، أي : مجالسهم على سُرر، جمع سرير.
وقرأ زيد بن علي، وأبو السمال :" سُرَر " بفتح الراء الأولى وقد تقدم أنها لغة لبعض بني " كلب " و " تميم ".
و " المَوضُونَة " : قال ابن عباس : منسوجة بالذهب.
٣٨٣