قوله :﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشِّمَالِ﴾.
لما ذكر منازل أهل الجنة وسمَّاهم أصحاب اليمين، ذكر منازل أهل النَّار، وسمَّاهم أصحاب الشمال ؛ لأنهم يأخذون كتبهم بشمائلهم، ثم عظم ذكرهم في البلاء والعذاب، فقال :﴿مَآ أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ﴾ وهي الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن، والمراد بها حر النار ولهيبها.
وقيل : ريح حارة تهب فتمرض أو تقتل، وأصله من السم كسمّ الحية والعقرب وغيرهما.
قال ابن الخطيب :" ويحتمل أن يكون هو السّم، والسّم يقال في خرم الإبرة، قال تعالى :﴿حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾ [الأعراف : ٤٠] ؛ لأن سم الأفعى ينفذ في مسام البدن ".
وقيل : السموم يختص بما يهبّ ليلاً، وعلى هذا فقوله :" سَمُومٍ " إشارة إلى ظلمة ما هم فيه.
و " الحَمِيم " : هو الماء الحارّ الذي قد انتهى حره، فهو " فَعِيل " بمعنى " فاعل " من حَمِمَ الماء، أو بمعنى " مفعول " من حم الماء إذا سخنه.
وقوله :﴿وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ﴾.
" اليَحْمُوم " وزنه " يَفْعُول ".
قال أبو البقاء :" من الحمم، أو الحميم ".
قال القرطبي :" هو " يَفْعُول، من الحم، وهو الشحم المسود باحتراق النار، وقيل : مأخوذ من الحُمَم وهو الفحم.
٤٠٥
و " اليَحْمُوم " : قيل : هو الدُّخان الأسود البهيم.
وقيل : هو وادٍ في جهنم.
وقيل : اسم من أسمائها.
والأول أظهر.
وقيل : إنه الظُّلمة، وأصله من الحمم، وهو الفَحْم، فكأنه لسواده فحم، فسمي باسم مشتق منه، وزيادة الحرف فيه لزيادة ذلك المعنى فيه، وربما تكون الزيادة فيه جامعة بين الزيادة في سواده، والزيادة في حرارته.
قال ابن الخطيب : وفي الأمور الثلاثة إشارة إلى كونهم في العذاب دائماً ؛ لأنهم إن تعرَّضوا لمهبّ الهواء أصابهم السَّمُوم، وإن استكنُّوا كما يفعله الذي يدفع عن نفسه السموم بالاستكنان في الكِنِّ يكون في ظل من يحموم، وإن أراد التبرُّد بالماء من حرّ السموم يكون الماء من حميم، فلا انفكاك له من العذاب، أو يقال : إنَّ السموم يعذبه فيعطش، وتلتهب نار السَّموم في أحشائه، فيشرب الماء، فيقطع أمعاءهُ، فيريد الاستظلال بظلّ، فيكون ذلك الظلّ ظل اليَحْمُوم.
وذكر السموم دون الحميم دون النَّار تنبيهاً بالأدنى على الأعلى، كأنه قيل : أبرد الأشياء في الدنيا حارّ عندهم فكيف أحرها.
قال الضَّحاك : النار سوداء، وأهلها سُود، وكل ما فيها أسود.
قوله :﴿لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ﴾ صفتان للظلّ، كقوله :" مِنْ يَحْمُومٍ ".
وفيه أنه قدم غير الصريحة على الصريحة، فالأولى أن تجعل صفة لـ " يجموم "، وإن كان السياق يرشد إلى الأول.
وقرأ ابن أبي عبلة :﴿لا بَارِدٌ ولا كريمٌ﴾ برفعهما : أي :" هُوَ لا بَارِدٌ ".
كقوله :[الكامل] ٤٦٩٢ -.......................
فَأبِيتُ لا حَرجٌ ولا مَحْرُومُ
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٠٥
قال الضَّحاك :" لا بَارِدٍ " بل حار ؛ لأنه من دخان سعير جهنم، " ولا كَرِيم " عذب.
وقال سعيد بن المسيّب : ولا حسن منظره، وكل ما لا خير فيه، فليس بكريم.
وقيل :﴿وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ﴾ أي : من النَّار يعذبون بها كقوله تعالى :﴿لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ﴾ [الزمر : ١٦].
٤٠٦
قال الزمخشري :" كرم الظل نفع الملهوف، ودفع أذى الحرّ عنه ".
قال ابن الخطيب : ولو كان كذلك لكان البارد والكريم بمعنى واحد، والأقوى أن يقال : فائدة الظل أمران : أحدهما : دفع الحر.
والآخر : كون الإنسان فيه مكرماً ؛ لأن الإنسان في البرد يقصد الشمس ليدفأ بحرّها إذا كان قليل الثِّياب، وفي الحرّ يطلب الظِّل لبرده، فإذا كان من المكرمين يكون أبداً في مكان يدفع الحر والبرد عن نفسه، فيحتمل أن يكون المراد هذا.
ويحتمل أن يقال : الظل يطلب لأمر حسّي، وهو يرده، ولأمر عقلي وهو التّكرمة، وهذا معنى ما نقله الواحدي عن الفرَّاء بنفي كل شيء مستحسن، فيقولون :" الدار لا واسعة ولا كريمة ".
قوله :﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ﴾.
أي : إنما استحسنوا هذه العقوبة ؛ لأنهم كانوا في الدنيا متنعّمين بالحرام.
و " المُتْرَف " : المنعم.
قاله ابن عباس وغيره.
وقال السُّدي :" مُتْرَفينَ " أي : مشركين.
قوله :﴿وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ﴾.
الحِنْثُ في أصل كلامهم : العدل الثقيل، وسمي به الذنب والإثم لثقلهما، قاله الخطابي.
وفلان حَنِثَ في يمينه، أي لم يَفِ به ؛ لأنه يأثم غالباً، ويعبر بالحِنْثِ عن البُلُوغ، ومنه قوله :" لَمْ يَبْلغوا الحِنْثَ ".
وإنما قيل ذلك ؛ لأن الإنسان عند بلوغه إيَّاه يؤاخذ بالحنث، أي : بالذنب، وتَحَنَّثَ فلان، أي جانب الحِنْث.
وفي الحديث :" كَانَ يَتَحَنَّثُ بِغَارِ حِرَاءَ "، أي : يتعبّد لمُجانبته الإثم، نحو :" تَحَرَّجَ " فتفعَّل في هذه كلِّها للسَّلْب.
٤٠٧


الصفحة التالية
Icon