فصل في تفسير الآية قال الحسن، والضحاك، وابن زيد :" يُصِرُّونَ على الحِنْثِ العَظيمِ " أي : يقيمون على الشرك.
وقال قتادة ومجاهد : الذَّنْب العظيم الذي لا يتوبون منه.
وقال الشَّعبي : هو اليمين الغَمُوس، وهي من الكبائر، يقال : حنث في يمينه، أي : لم يبرّها ورجع فيها، وكانوا يقسمون أن لا بعث، وأن الأصنام أنْداد الله فذلك حنثهم.
فصل في الحكمة من ذكر عذاب هذه الطائفة قال ابن الخطيب : والحكمة في ذكره سبب عذابهم، ولم يذكر في أصحاب اليمين سبب ثوابهم، فلم يقل : إنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين، وذلك تنبيه على أن ذلك الثواب منه فضل، والعقاب منه عدل، والفضل سواء ذكر سببه، أو لم يذكره لا يتوهّم بالمتفضل نقص وظلم.
وأمَّا العدل إن لم يعلم سبب العقاب، يظن أن هناك ظلماً، ويدلّ على أنه تعالى لم يقل في أصحاب اليمين :﴿جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [الواقعة : ٢٤] كما قاله في السَّابقين ؛ لأن أصحاب اليمين نجوا بالفضل العظيم لا بالعمل، بخلاف من كثرت حسناته يحسن إطلاق الجزاء في حقه.
واعلم أن المترف هو المنعم، وذلك لا يوجب ذمًّا، وإنما حصل لهم الذم بقوله :﴿وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ﴾، فإن صدور المعاصي ممن كثرت النِّعم عليه [من] أقبح القبائح، فقال :﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ﴾، ولم يشكروا نعم الله، بل أصروا على الذنب العظيم.
وفي الآية مبالغة ؛ لأن قوله :﴿وَكَانُواْ يُصِرُّونَ﴾ يقتضي أن ذلك عادتهم، والإصرار على مُدَاومةِ المعصية والحنث أبلغ من الذنب ؛ لأن الذنب يطلق على الصغيرة، ويدل على ذلك قولهم :" بَلَغَ الحِنْثَ " أي : بلغ مبلغاً تلحقه فيه الكبيرة.
وأما الصغيرة فتلحقُ الصغير، فإن وليَّهُ يعاقبه على إسَاءَة الأدب، وترك الصلاة، ولأن وصفه بالعظيم مبالغة.
قاله ابن الخطيب.
قوله تعالى :﴿وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا﴾ الآية.
٤٠٨
هذا استبعاد منهم للبعث وتكذيب له، وقد تقدّم الكلام على ذلك في " والصَّافات "، وتقدم الكلام على الاستفهامين في سورة " الرَّعْد ".
فإن قيل : كيف أتى بـ " اللام " المؤكدة في قوله تعالى :﴿لَمَبْعُوثُونَ﴾، مع أن المراد هو النفي، وفي النفي لا تدخل " اللام " في خبر " إنَّ "، تقول :" إنَّ زيداً ليجيء، وإنَّ زيداً لا يجيء " فلا تذكر " اللام "، ومرادهم بالاستفهام : الإنكار، بمعنى إنا لا نبعث ؟.
فالجواب من وجهين : أحدهما : عند التصريح بالنفي وصيغته، يجب التصريح بالنفي وصيغته.
والثاني : أنهم أرادوا تكذيب من يخبر عن البعث، فذكروا أن المخبر عنه يبالغ في الإخبار، ونحن ننكر مبالغته وتأكيده، فحكوا كلام المخبر على طريقة الاستفهام والإنكار، ثم إنهم أشاروا في الإنكار إلى أمور اعتقدوها مقررة لصحة إنكارهم، فقالوا :" أئِذَا مِتْنَا " ثم لم يقتصروا عليه، بل قالوا بعده :﴿وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً﴾ أي : وطال عهدنا بعد كوننا أمواتاً حتى صارت اللحوم تراباً، والعظامُ رفاتاً ثم زادوا وقالوا : مع هذا يقال لنا : إنكم لمبعوثون بطريق التأكيد من ثلاثة أوجه : أحدها : استعمال " إنَّ ".
ثانيها : إثبات " اللام " في خبرها.
ثالثها : ترك صيغة الاستقبال، والإتيان بالمفعول كأنه كائن، ثم زادوا وقالوا :﴿أَوَ آبَآؤُنَا الأَوَّلُونَ﴾ فقال الله تعالى لهم :" قُلْ " يا محمد ﴿إِنَّ الأَوَّلِينَ﴾ من آبائكم، و ﴿وَالآخِرِينَ﴾ منكم ﴿لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ﴾ يعني : يوم القيامة.
ومعنى الكلام : القسم ودخول " اللام " في قوله تعالى :﴿لَمَجْمُوعُونَ﴾ هو دليل القسم في المعنى، أي : إنكم لمجمُوعون قسماً حقًّا، بخلاف قسمكم الباطل.
قوله :﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضِّآلُّونَ﴾ عن الهدى ﴿الْمُكَذِّبُونَ﴾ بالبعث ﴿لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ﴾، وهو شجر كريه المَنْظَر كريه الطعم، وهو المذكور في سورة " والصَّافَّات ".
وهذا الخطاب عامّ، وقيل : لأهل " مكة "، وهو من تمام كلام النبي ﷺ وقدم هنا الضَّالين على المكذبين في آخر السورة، قال :﴿وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّآلِّينَ﴾ [الواقعة : ٩٢]، فقدم المكذبين على الضَّالين ؛ لأنهم هنا أصرُّوا على الحنث العظيم فضلوا عن السبيل، ثم كذبوا الرسول، وقالوا :" أئذا مِتْنَا ".
وفي آخر السورة قدم المكذبين بالحشر على الضالين عن طريق الخلاص، أو
٤٠٩