يقال : إنَّ الكلام هنا مع الكُفَّار وهم ضلوا أولاً، وكذبوا ثانياً، وفي آخر السورة الكلام مع النبي ﷺ فقدم التكذيب به إظهاراً للعناية به صلى الله عليه وسلم.
قوله :﴿مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ﴾.
فيه أوجه : أحدها : أن تكون " من " الأولى لابتداء الغاية، والثانية للبيان، أي : مبتدئون الأكل من شجر هو زقوم.
الثاني : أن تكون " من " الثَّانية صفة لـ " شجر " فيتعلق بمحذوف أي : مستقر.
الثالث : أن تكون الأولى مزيدة، أي : لآكلون شجراً، و " من " الثانية على ما تقدم من الوجهين.
الرابع : عكس هذا، وهو أن تكون الثانية مزيدة، أي : لآكلون زقُّوماً، و " من " الأولى للابتداء في محل نصب على الحال من " زقّوم " أي : كائناً من شجر، ولو تأخَّر لكان صفة.
الخامس : أن " من شجر " صفة لمفعول محذوف، أي : لآكلون شيئاً من شجر و " مِنْ زقُّومٍ " على هذا نعت لـ " شجر " أو لشيءٍ محذوف.
السادس : أن الأولى للتبعيض، والثانية بدل منها.
قوله :﴿فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ﴾.
الضمير في " منها " عائد على الشجر، وفي " عليه " للشجر أيضاً.
وأنه يجوز تذكير اسم الجنس وتأنيثه، وأنهما لغتان.
وقيل : الضمير في " عليه " عائد على " الزَّقُّوم ".
وقال أبو البقاء : للمأكول.
وقال ابن عطية :" للمأكول أو الأكل " انتهى.
وفي قوله :" الأكْل " بُعْد.
وقال الزمخشري :" وأنّث ضمير الشجر على المعنى، وذكره على اللفظ في " منها " و " عليه "، ومن قرأ :﴿مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ﴾ فقد جعل الضميرين للشجرة، وإنما ذكر الثاني على تأويل الزقوم ؛ لأنه تفسيرها ".

فصل في تحرير معنى الزقوم قال ابن الخطيب :" اختلفت أقوال الناس في " الزقوم "، وحاصل الأقوال يرجع


٤١٠
إلى كون ذلك في الطَّعم مرًّا، وفي اللمس حارًّا، وفي الرائحة منتناً، وفي المنظر أسود لا يكاد آكله يَسيغهُ.
والتحقيق اللغوي فيه أن الزَّقوم لغة عربية، ودلنا تركيبه على قبحه ؛ لأن " ز ق م " لم يجتمع إلا في مهمل، أو في مكروه.
يقال منه : مَزَقَ يَمْزقُ، ومنه : زَمَقَ شعره إذا نتفه، ومن " القَزْمُ " للدَّناءة واللؤم.
وأقوى من هذا أن " القاف " مع كل حرف من الحرفين الباقيين يدل في أكثر الأمر على مكروه، فالقاف مع " الميم " كـ " القمامة والتَّقَمْقُم والقُمْقُمة "، وبالعكس " المقامق " لتغليظ الصوت، و " المَقْمَقَة " هو الشق.
وأما القاف مع الزاي فـ " الزق " رمي الطائر بذرقه، والزَّقْزقة : للخفة، وبالعكس - القزنوب - فينفر الطَّبع من تركيب الكلمة من حروف اجتماعها دليل الكراهة والقُبْح، ثم قرن بالأكل، فدلَّ على أنه طعام ذو غُصَّة.
وأما ما يقال : بأن العرب تقول :" زَقَمْتَنِي " بمعنى : أطعمتني الزّبد والعسل واللَّبن، فذلك للمجانة، كما يقال : ارشقني بثوب حسن، وارجمني بكيس من ذهب ".
وقد تقدم الكلام على الزَّقُوم في " والصَّافات ".
وقوله :﴿فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ﴾.
بيان لزيادة العذاب، أي : لا يكتفي منكم بنفس الأكل، كما يكتفى ممن يأكل الشَّيء لتحلّة القسم، بل يلزمون منها بأن يملئوا منها البطون.
وقوله :" البُطُون " إما مقابلة الجمع بالجمع، أي : يملأ كل واحد منكم بطنه.
وإما أن يكون لكل واحد بطون، ويكون المراد منه ما في بطن الإنسان، وهم سبعة أمعاء فيملئون بطون الأمعاء، والأول أظهر، والثاني أدخل في التعذيب.
قوله :﴿فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ﴾ أي : على الأكل، أو على الزَّقوم لأجل مرارته وحرارته يحتاجون إلى شرب الماء فيشربون من الماء الحار.
قوله :﴿فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ﴾.
وهذا أيضاً بيان لزيادة العذاب، أي : لا يكون شربكم كمن شرب ماء حارًّا مُنْتِناً، فيمسك عنه، بل يلزمون أن يشربوا منه مثل ما يشرب الأهْيم، وهو الجمل العطشان، فيشرب ولا يروى.
وقرأ نافع وعاصم وحمزة : بضم الشين من " شُرْب ".
٤١١
وباقي السبعة بفتحها.
ومجاهد وأبو عثمان النهدي : بكسرها.
فقيل : الثلاث لغات في مصدر " شرِبَ "، والمقيس منها إنما هو المفتوح، والمضموم والمكسور اسمان لما يشرب كـ " الرَّعْي " و " الطَّحْن ".
قال القرطبي :" تقول العرب :" شَرِبْتُ شُرْباً وشَرْباً وشِرْباً وشُرُباً " بضمتين ".
قال أبو زيد : سمعت العرب تقول : بضم الشِّين وفتحها وكسرها.
والفتح هو المصدر الصحيح ؛ لأن كل مصدر من ذوات الثلاثة فأصله " فَعْل " ؛ ألا ترى أنك تردّه إلى المرة الواحدة، فتقول :" فَعْلَة " نحو " شَرْبة ".
وقال الكسائي يقال :" شربت شُرْباً وشَرْباً ".
ويروى قول جعفر :" أيَّامُ مِنى أيَّام أكْلٍ وشَرْب ".
ويقال : بفتح الشين، والشرب في غير هذا اسم للجماعة الشَّاربين.
قال :[البسيط] ٤٦٩٣ - كأنَّهُ خَارِجاً مِنْ جَنْبِ صَفْحَتِهِ
سَفُّودُ شَرْبٍ نَسُوهُ عندَ مُفتأدِ
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٠٥


الصفحة التالية
Icon