ولا دليل فيه، لجواز أن تكون موصوفة بـ " قَنَصٍ " إما على المبالغة، أو على حذف مضاف، وتصلح للتثنية والجمع الواحد.
فالواحد كقوله :﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ [الأنعام : ٢٥] والجمع كقوله :﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ [يونس : ٤٢]، والسبب فيه أنه موحّد اللفظ مجموع المعنى.
و " مِنْ " في " من الناس " للتبعيض، وقد زعم قومٌ أنها لِلْبَيَانِ وهو غَلَطٌ ؛ لعدم تقدم ما يتبين بها.
و " النَّاس " اسم جمع لا واحد له من لَفْظِهَ، ويرادفه " أَنَاسِيّ " جمع إنسان أو إنسي، وهو حقيقة في الآدميين، ويطلق على الجِنّ مجازاً.
واختلف النحويون في اشتقاقه : فمذهب سيبويه والفراء أن أصله همزة ونون وسين، والأصل : أناس اشتقاقاً من الأُنس، قال :[الطويل] ١٧١ - وَمَا سُمِّيَ الإِنْسَانُ إِلاَّ لأُنْسِهِ
وَلاَ القَلْبُ إِلاَّ أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٢٧
لأنه أنس بـ " حواء ".
وقيل : بل أنس بربه ثم حذفت الهمزة تخفيفاً ؛ يدلّ على ذلك قوله :[الكامل] ١٧٢ - إِنَّ الْمَنَايَا يَطَّلِعْـ
ـنَ عَلَى الأُنَاسِ الآمِنِينَا
وقال آخر :[الطويل] ١٧٣ - وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ
وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فَهُوَ سَارِبُ
٣٢٨
وقال آخر :[الطويل] ١٧٤ - وَكُلُّ أُنَاسٍ سَوْفَ تَدْخُلُ بَيْنَهُمْ
دُوَيْهِيَةٌ تَصْفَرُّ مِنْهَا الأَنَامِلُ
وذهب الكسائي إلى أنه من " نون وواو وسين " والأصل :" نوس " فقلبت " الواو " " ألفاً " لتحركها، وانفتاح ما قبلها، والنَّوسُ : الحركة.
وذهب بعضهم إلى أنه من " نون وسين وياء "، والأصل " نسي "، ثم قلبت " اللام " إلى موضع العين، فصار :" نيس " ثم قلبت " الياء " " ألفاً " لما تقدم في " نوس "، قال : سموا بذلك لنسيانهم ؛ ومنه الإنسان لنسيانه ؛ قال :[البسيط] ١٧٥ - فَإِنْ نَسِيتَ عُهُوداً مِنْكَ سَالِفةً
فَاغْفِرْ فَأَوَّلُ نَاسٍ أَوَّلُ النَّاسِ
ومثله :[الكامل] ١٧٦ - لا تَنْسَيَنْ تِلْكَ الْعُهُودَ فَإِنَّمَا
سُمِّيتَ إِنْسَاناً لإِنَّكَ نَاسِي
فوزنه على القول الأول :" عَال "، وعلى الثاني :" فَعَلٌ "، وعلى الثالث :" فَلَعٌ " بالقَلْبِ ".
و " يقول " : فعل مضارع، وفاعله ضمير عائد على :" من ".
والقول حقيقةً : اللفظ الموضوعُ لمعنى، ويطلق على اللَّفْظِ الدَّال على النسبة الإسنادية، وعلى الكلام النَّفساني أيضاً، قال تعالى :﴿وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ﴾ [المجادلة : ٨].
وتراكيبه السّتة وهي :" القول "، و " اللوق " و " الوقل "، و " القلو "، " و " اللّقو "، و " الولق " تدل على الخفّة والسرعة، وإن اختصت بعض هذه المواد بمعانٍ أخر.
و " القول " أصل تعديته لواحد نحو :" قُلْتُ خطبة "، وتحكي بعده الجمل، وتكون في محل نصب مفعولاً بها، إلا أن يُضَمَّنَ معنى الظن، فيعمل عمله بشروط عند غير " بني سُلَيْمٍ " ؛ كقوله :[الرجز] ١٧٧ - مَتَى تَقُولُ الْقُلُصَ الرَّوَاسِمَا
يُدْنِينَ أُمَّ قَاسِمٍ وقَاسِمَا
٣٢٩
وبغير شرط عندهم، كقوله :[الرجز] ١٧٨ - قَالَتْ وَكُنْتُ رَجُلاً فَطِينَا
هَذَا لَعَمْرُ اللهِ إِسْرَائِينَا
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٢٧
و " آمنا " فعل وفاعل، و " بالله " متعلّق به، والجملة في محلّ نصب بالقول، وكررت " الباء " في قوله :" وباليوم "، للمعنى المتقدّم في قوله :﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ﴾ [البقرة : ٧] فإن قيل : الخبر لا بدّ وأن يفيد غير ما أفاد المبتدأ، ومعلوم أنّ الذي يقول كذا هو من الناس لا من غيرهم ؟ فالجواب : أنّ هذا تفصيل معنوي، لأنه تقدّم ذكر المؤمنين، ثم ذكر الكَافرين، ثم عقب بذكر المُنافقين، فصار نظير التَّفصيل اللَّفظي، نحو قوله :﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ﴾ [البقرة : ٢٠٤]، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي﴾ [لقمان : ٦]، فهو في قوّة تفصيل النَّاس إلى مؤمن، وكافر، ومنافق.
وأحسن من هذا أن يقال : إنَّ الخبر أفاد التَّبعيض المقصود ؛ لأنَّ النَّاس كلهم لم يقولوا ذلك، وهم غير مؤمنين، فصار التقدير : وبعض الناس يقول كَيْتَ وكَيْت.
واعلم أن " مَنْ " وأخواتها لها لفظ ومعنى، فلفظها مفرد مذكر، ـ فإن أريد بها غير ذلك، فَلَكَ أن تراعي لفظها مَرّة، ومعناها أخرى، فتقول : جاء مَنْ قام وقعدوا، والآية الكريمة كذلك روعي اللفظ أولاً فقيل :" من يقول "، والمعنى ثانياً في " آمنا ".
وقال ابن عطية : جسن ذلك ؛ لأن الواحد قبل الجمع في الرتبة، ولا يجوز أن يرجع متكلّم من لفظ جمع إلى توحيد.
فلو قلت " " ومن الناس من يقومون " وتتكلّم لم يجز.
وفي عبارة ابن عطية نظر، وذلك لأنّه منه مِنْ مُرَاعاة اللَّفظ بعد مُرَاعاة المعنى، وذلك جائز، إلاَّ أن مراعاة اللّفظ أولاً أولى، يرد عليه قول الشَّاعر :[الخفيف] ١٧٩ - لَسْتُ مِمَّنْ يَكُعُّ أَوْ يَسْتَكِينُو


الصفحة التالية
Icon