منهم بقي الثالث ضائعاً وحيداً، فيضيق عليه، ولهذا قال النبي ﷺ :" إذَا كُنْتُمْ ثلاثَةً فَلا يَتَنَاجَى اثْنَان دُونَ الثَّالِثِ إلاَّ بإذْنِهِ فإنَّ ذلِكَ يُحْزنهُ ".
فكأنه - تعالى - يقول : أنا جليسك وأنيسك، وكذا الخمسة إذا اجتمعوا بقي الخامس وحيداً فريداً.
الثاني : أن العدد الفرد أشرف من الزوج ؛ لأن الله - تبارك وتعالى - وتر يحب الوتر، فخص أعداد الفرد بالذكر تنبيهاً على أنه لا بد من رعاية الأمور الإلهية في جميع الأمور.
الثالث : أن أقل ما لا بد منه في المشاورة التي يكون الغرض منها تمهيد مصلحة ثلاثة حتى يكون الاثنان كالمتنازعين في النفي والإثبات، والثالث كالحاكم بينهما، فحينئذ تكمل المشورة، ويتم ذلك الغرض، فلهذا السبب لا بد وأن يكون أرباب المشورة عددهم فرداً، فذكر الله - تعالى - الفردين الأولين، واكتفى بذكرهما تنبيهاً على الباقي.
الرابع : أن الآية نزلت في قوم منافقين اجتمعوا على التناجي، وكانوا على هذين العددين.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في ربيعة، وحبيب بن أبي عمرو، وصفوان بن أمية كانوا يتحدّثون، فقال أحدهم : هل يعلم الله ما نقول ؟ وقال الثالث : يعلم البعض.
الخامس : أنه في مصحف عبد الله بن مسعود :﴿ما يكون من نجوى ثلاثة إلاَّ الله رابعهم، ولا أربعة إلا الله خامسهم، ولا خمسة إلا الله سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم إذا أخذوا في التناجي﴾.
قوله :﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي : يحاسب على ذلك، ويجازي عليه.
﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ وهذا تحذير من المعاصي، وترغيب في الطاعات.
قوله تعالى :﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَى ﴾ الآية.
قيل : هم اليهود.
وقيل : هم المنافقون.
وقيل : فريق من الكفار.
وقيل : فريق من المسلمين، لما روى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال :" كنا ذات ليلةٍ نتحدَّث إذ خرج علينا رسول الله ﷺ فقال :" مَا هَذِهِ النَّجْوَى " ؟ فقلنا : تُبْنَا إلى الله يا رسول الله ﷺ إنا كُنَّا في ذكر المسيخ، يعني : الدجال فرقاً منه، فقال رسول الله
٥٣٥
صلى الله عليه وسلم :" ألا أخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أخْوَفُ عِنْدِي مِنْهُ ؟ " قلنا : بلى، يا رسول الله ﷺ، قال :" الشِّرْكُ الخَفِيُّ أن يَقُومَ الرَّجلُ يعْمَلُ لمكانِ رَجُل " ذكره المارودي.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم، وينظرون للمؤمنين، ويتغامزون بأعينهم، فقال المؤمنون : لعلهم بلغهم عن إخواننا وقرابتنا من المهاجرين والأنصار قتل، أو مصيبة، أو هزيمة ؛ ويسوؤهم ذلك، وكثرت شكواهم إلى رسول الله ﷺ فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا، فنزلت الآية.
وقال مقاتل : كان بين النبي ﷺ وبين اليهود موادعة، فإذا مرَّ بهم رجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظنّ المؤمن شرًّا، فيعرج عن طريقه فنهاهم الله - سبحانه - فلم ينتهوا فنزلت.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان الرجل يأتي النبي ﷺ فيسأله الحاجة ويناجيه، والأرض يومئذ خرب فيتوهّموا أنه يناجيه في حرب أو بليَّة أو أمر فيفزعون لذلك فنزلت.
قال ابن الخطيب رحمه الله : والأولى أن تكون نزلت في اليهود ؛ لأنه - عز وجل - حكى عنهم، فقال :﴿وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ﴾ وهذا إنما وقع من اليهود، كانوا إذا سلموا على الرسول ﷺ قالوا : السَّامُ عليكم، يعنون الموت.
قوله :﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ﴾ أي : يرجعون إلى المُناجاة التي نهوا عنها.
قوله :" ويَتَنَاجَوْنَ ".
قرأ حمزة :" وينْتَجُون " بغير ألف من " الانتجاء " من " النجوى " على وزن " يَفْتَعلُون ".
والباقون :" ويتناجون " من " التَّناجي " من " النجوى " أيضاً.
٥٣٦