" ومر النبي ﷺ بمجلسين في مسجده، أحد المجلسين يدعون الله عز وجل ويرغبون إليه، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه، فقال رسول الله ﷺ :" كِلاَ المَجْلِسيْنِ عَلَى خَيْرٍ، وأحَدُهُمَا أفْضَلُ مِنْ صَاحبهِ، أمَّا هؤلاءِ فَيَدْعُونَ اللَّهَ - عزَ وجلَّ - ويرغبُون إليه، وأمَّا هؤلاءِ فيتعلَّمونَ الفقهَ ويُعَلِمُّونَ الجاهلَ، فهؤلاءِ أفضلُ، وإنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّماً " ثم جلس فيهم ".
قوله تعالى :﴿ يا أيها الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾ الآية.
قال ابن عباس في سبب النزول : إن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله ﷺ حتى شقوا عليه فأنزل الله - تعالى - هذه الآية فكفَّ كثير من الناس.
وقال الحسن : إن قوماً من المسلمين كانوا يستخلون بالنبي ﷺ يناجونه، فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النَّجوى، فشق ذلك عليهم، فأمرهم الله - تعالى - بالصَّدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه.
وقال زيد بن أسلم : إن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبي ﷺ ويقولون : إنه أذُن يسمع كلَّ ما قيل له، وكان لا يمنع أحداً مُناجاته، فكان ذلك يشقّ على المسلمين ؛ لأن الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعاً اجتمعت لقتاله، فأنزل الله تعالى :﴿ يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا ااْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ﴾ [المجادلة : ٩] الآية، فلم ينتهوا فأنزل الله هذه الآية فانتهى أهل الباطل عن النجوى ؛ لأنهم لم يقدموا بين يدي نجواهم صدقة، وشقّ ذلك على أهل الإيمان، وامتنعوا عن النجوى لضعف مقدرة كثير منهم عن الصدقة، فخفف الله - تعالى - عنهم بما بعد الآية.
قال ابن العربي : وهذا الخبر يدل على أن الأحكام لا تترتب بحسب المصالح، فإن الله - تعالى - قال :﴿ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ﴾ ثم نسخه مع أنه كونه خيراً وأطهر، وهذا يرد على المعتزلة في التزام المصالح.
٥٤٧
فصل فيمن اعتبر الصدقة واجبة أو مندوبة ظاهر الآية يدلّ على أن تقديم الصَّدقة كان واجباً ؛ لأن الأمر للوجوب، ويؤكد ذلك بعده قوله تعالى :﴿فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ وهذا لا يقال إلا فيما بفقده يزول وجوبه.
وقيل : كان مندوباً بقوله تعالى :﴿ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ﴾ وهذا إنما يستعمل في التطوع لا في الواجب، ولأنه لو كان واجباً لما أزيل وجوبه لكلام متصل به وهو قوله تعالى :﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ﴾ [إلى آخر الآية].
٥٤٨
وأجيب عن الأول : أن المندوب كما يوصف بأنه خير وأطهر، فكذلك أيضاً يوصف به الواجب.
وعن الثاني : أنه لا يلزم من اتصال الآيتين في التلاوة كونهما متَّصلتين في النزول كما قيل في الآية الدَّالة على وجوب الاعتداد أربعة أشهر وعشراً أنها ناسخة للاعتداد بحول، وإن كان الناسخ متقدماً في التلاوة على المنسوخ.
انتهى.
فصل اختلفوا في مقدار تأخُّر الناسخ عن المنسوخ في هذه الآية، فقال الكلبي رحمه الله : ما بقي ذلك التكليف إلا ساعة من النهار ثم نسخ.
وقال مقاتل بن حيان : بقي ذلك التكليف عشرة أيام، ثم نسخ لما روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : إنَّ في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا عمل بها أحد بعدي كان لي دينار، فاشتريت به عشرة دراهم، وكلما ناجيت النبي ﷺ قدمت بين يدي نجواي درهماً، ثم نسخت فلم يعمل بها.
وروى عن ابن جريج، والكلبي، وعطاء عن ابن عباس - رضي الله عنهم - أنَّهم نهوا عن المُناجاة حتى يتصدقوا، فلم يُناج أحد إلاَّ عليٌّ تصدق بدينار، ثم نزلت الرخصة.
وقال ابن عمر : لقد كانت لعلي - رضي الله عنه - ثلاثة، لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إليَّ من حمر النعم : تزويجه فاطمة - رضي الله عنها - وإعطاؤه الرَّاية يوم " خيبر "، وآية النجوى.
﴿ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ من إمساكها، " وأطْهَرُ " لقلوبكم من المعاصي ﴿فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ﴾ يعني : الفقراء ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
روى الترمذي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال :" لما نزلت { يا أيها الَّذِينَ
٥٤٩