فصل في معنى الآية المعنى : لأنتم يا معشر المسلمين ﴿أَشَدُّ رَهْبَةً﴾ أي خوفاً وخشية في صدورهم من الله، يعني صدور بني النضير.
وقيل : صدور المنافقين، ويحتمل أن يرجع إلى الفريقين، أي : يخافون منكم أكثر مما يخافون من ربهم، " ذَلِكَ " إشارة إلى الخوف أي ذلك الخوف ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ قدر عظمة الله وقدرته حتى يخشوه حقَّ خشيته.
قوله تعالى :﴿لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً﴾ يعني اليهود والمنافقين لا يقدرون على مقاتلتكم مجتمعين " إلاَّ " إذا كانوا ﴿فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ﴾ بالخنادق والدُّروب والحيطان [يظنُّون] أنها تمنعهم منكم، ﴿أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ﴾ أي : من خلف حيطانٍ يستترون بها لجبنهم ورهبتهم.
قوله :" جَمِيعاً " حال، و ﴿إِلاَّ فِي قُرًى﴾ متعلق بـ " يُقَاتِلُونَكُمْ ".
وقوله :" جُدُرٍ ".
قرأ ابن كثير وأبو عمرو :" جدار " بالإفراد.
وفيه أوجه : أحدها : أنه السُّورُ، والسُّورُ الواحد يعم الجميع من المقاتلة ويسترهم.
والثاني : أنه واحد في معنى الجمع لدلالة السياق عليه.
والثالث : أن كل فرقة منهم وراء جدار لا أنهم كلهم وراء جدار.
والباقون قرأوا :" جُدُر " - بضمتين - اعتباراً بأن كل فرقة وراء جدار، فجمع لذلك.
وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن وثاب والأعمش، ويروى عن ابن كثير وعاصم : بضمة وسكون ؛ وهي تخفيف الأولى، وقرأ ابن كثير - أيضاً - في رواية هارون عنه، وهي قراءة كثير من المكيين :" جَدْر " بفتحة وسكون.
فقيل : هي لغة في الجدار.
وقال ابن عطية : معناه أصل بنيات كالسور ونحوه : قال : ويحتمل أن يكون من
٦٠١
جَدْر النخيل أي من وراء نخيلهم.
يقال : أجدر النخل إذا طلعت رءوسه أول الربيع.
والجدر : نبت، واحده جدرة.
وقرئ :" جَدَرٌ " - بفتحتين - حكاها الزمخشري.
وهي لغة في الجدار أيضاً.
وقرئ :" جُدْر " - بضم الجيم وإسكان الدَّال - جمع الجدار.
قال القرطبي : ويجوز أن تكون الألف في الواحد كألف " كتاب " وفي الجمع كألف " ظِراف " ومثله " ناقة هجان، ونوق هجان " لأنك تقول في التثنية " هجانان "، فصار لفظ الواحد والجمع مشتبهين في اللفظ مختلفين في المعنى.
قاله ابن جني.
قوله :﴿بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ﴾.
" بَيْنَهُمْ " متعلق بـ " شديد " و " جميعاً " مفعول ثانٍ، أي : مجتمعين.
وقوله :﴿وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾.
جملة حالية، أو مستأنفة للإخبار بذلك.
والعامة على " شتى " بلا تنوين، لأنها ألف تأنيث.
ومن كلامهم :" شَتَّى تتوب الحلبة " أي متفرقين.
وقال آخر :[الطويل] ٤٧٥٣ - إلَى اللَّهِ أشْكُو نِيَّةً شَقَّتِ العَصَا
هِيَ اليَوْمَ شَتَّى، وهيَ أمْسِ جَمِيعُ
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٥٩٥
وقرأ مبشر بن عبيد :" شَتًّى " منونة، كأنه جعلها ألف الإلحاق.
وفي قراءة ابن مسعود :" وقُلُوبُهُمْ أشتُّ " يعني أشد تشتيتاً أي أشد اختلافاً.
فصل في معنى الآية معنى ﴿بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ﴾ أي : عداوة بعضهم لبعض.
قاله ابن عباس.
وقال مجاهد :﴿بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ﴾ بالكلام والوعيد لنفعلن كذا.
٦٠٢
وقال السُّدي : المراد اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحدٍ.
وقيل :﴿بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ﴾ إذا لم يلقوا عدوًّا نسبوا أنفسهم إلى الشدة والبأس، وإذا لقوا العدو انهزموا.
﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾.
يعني اليهود والمنافقين.
قاله مجاهد.
وعنه أيضاً : يعني المنافقين.
وقال الثوري : هم المشركون وأهل الكتاب.
وقال قتادة :﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً﴾ أي : مجتمعين على أمْر ورأي.
﴿وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾ : أي : متفرقة فأهل الباطل مختلفة آراؤهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق.
وعن مجاهد أيضاً : أراد أن دين المنافقين مخالف لدين اليهود، وهذا يقوي أنفس المؤمنين عليهم ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ﴾ أي : ذلك التشتيت والكفر بأنهم قوم لا يعقلون أمر الله.
وقيل : لا يعقلون ما فيه الحظ لهم.
وقيل : لا يعقلون أن تشتيت القلوب مما يوهن قواهم.
قوله تعالى :﴿كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾.
خبر مبتدأ مضمر، أي : مثلهم مثل هؤلاء.
و " قريباً " فيه وجهان : أحدهما : أنه منصوب بالتشبيه المتقدم، أي : يشبهونهم في زمن قريب سيقع لا يتأخر، ثم بين ذلك بقوله :﴿ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾.
والثاني : أنه منصوب بـ " ذاقوا " أي : ذاقوا في زمن قريب.
أي : ذاقوه في زمن قريب سيقع ولم يتأخّر.
وانتصابه في وجهيه على ظرف الزَّمان.

فصل في معنى الآية يعني مثل هؤلاء اليهود كمثل الذين من قبلهم.


٦٠٣


الصفحة التالية
Icon