أي : عن النِّسَاء.
فصلٌ في المراد بـ " الأسباب " والأَسْبَابُ : الوَصْلاَتُ التي كانت بينهم، قاله مجاهدٌ، وقتادةُ، والرَّبيعُ.
وقال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عَنْهما - وابن جُرَيْجٍ : الأَرْحَام الَّتِي يتعاطَفُونَ بها ؛ كقوله تعالى :﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ﴾ [المؤمنون : ١٠١].
وقال ابنُ زَيْدٍ، والسُّدِّيُّ : الأعمالُ الَّتي كانوا يلزَمُونَها.
وقال ابنُ عَبَّاسٍ : العُهُودُ والحَلِفُ الَّتي كانوا يلزَمُونَها.
وقال الضَّحَّاكُ، والرَّبيع بنُ أَنَسٍ : المنازلُ التي كانَتْ لهم في الدُّنيَا.
وقال السُّدِّيُّ : الأعْمَالُ الَّتي كانوا يلزمونها في الدنيا ؛ كقوله تبارك وتعالى :﴿وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً﴾ [الفرقان : ٢٣].
وقيل : أسبابُ النجاةِ تقطَعَّت عنهم.
قال ابنُ الخَطِيبِ - رضي الله عنه - والأظْهَرُ دخولُ الكُلِّ فيه ولأن ذلك كالنَّفي، فيعمّ الكلَّ ؛ فكأنَّه قال : وزالَ كلُّ سببٍ يمكنُ أن يتعلَّق به، وأنهم لا ينتفعونُ بالأَسْباب على اختلافِهَا من منزلةٍ، وسببٍ ونسَبٍ، وعَهْدٍ، وعَقْدٍ وذلك نهاية اليأس.
وهذه الأسبابُ مجازٌ فإِنَّ السَّبب في الأصْل : الحَبْل ؛ قالوا : ولا يُدْعى الحَبْلُ سبباً ؛ حتى يُنْزَلَ فيه ويُصْعَدَ به، ومنْه قوله تبارك وتعالى :﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَآءِ﴾
١٤٥
[الحج : ١٥] ثم أطلق على كلِّ ما يُتَوَصَّلُ به إلى شَيْءٍ، عَيْناً كان أو معنى، وقيل للطَّريق : سَبَبٌ ؛ لأنَّك بسُلُوكِهِ تَصِلُ إلى المَوْضع الذي تريدُهُ ؛ قال تعالى :﴿فَأَتْبَعَ سَبَباً﴾ [الكهف : ٨٥] أي : طريقاً، وأسبابُ السَّموات : أَبوابُها ؛ قال تعالى مُخْبِراً عن فِرْعُونَ :﴿لَّعَلِّى أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ﴾ [غافر : ٣٦ - ٣٧] وقد تُطْلَقُ الأسبابُ على الحوادِثِ ؛ قال زُهَيْرٌ :[الطويل] ٨٨٣ - وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ
وَلَوْ نَالَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ
وقد يُطْلَق السَّبَب على العِلْمِ ؛ قال سُبحَانهُ وتعالى :﴿مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً﴾ [الكهف : ٨٤] أي ؛ عِلماً، وقد وجد هنا نَوعٌ منْ أنواع البَدِيع، وهو التَّرْصِيع، وهو عبارةٌ عن تسجيع الكلامِ، وهو هنا في موضعين.
أحدهما :﴿اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ﴾ ؛ ولذلك حذف عائد المَوْصُول الأوَّل، فلم يَقُلْ ﴿مِنَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم﴾ ؛ لفواتِ ذلك.
والثَّاني :﴿وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ﴾، وكقوله ﴿وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ﴾ [البقرة : ٢٧٦].
قوله تعالى :﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ﴾، يعني : الأَتْبَاع :﴿لَوْ أَنْ لنَا كَرَّةً﴾ أي : رجعةً إلى الدُّنيا، والكرَّةُ : العودَة، وفِعْلُها كَرَّ يَكُرُّ كَرّاً ؛ قال القائل في ذلك :[الوافر] ٨٨٤ - أَكُرُّ عَلَى الْكِتيبَةِ لاَ أُبَالِي
أَفِيهَا كَانَ حَتْفِي أَمْ سَوَاهَا
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٤٣
قوله تعالى :" فَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ " منصوبٌ بعد الفاءِ بـ " أنْ " مضمرة في جواب التمنِّي الَّذي أُشْرِبَتْهُ " لَوْ " ولذلك أجيب بجواب " لَيْتَ " الذي في قوله :﴿يا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ [النساء : ٧٣] وإذا أُشْرِبَتْ معنى التمنِّي، فهلْ هي الامتناعيَّةُ المفتقرة إلى جوابٍ، أم لا تحتاجُ إلى جوابٍ.
الصحيحُ : أنها تحتاجُ إلى جوابٍ، وهو مقدّر في الآية الكريمة تقديرُهُ تَبَرَّأْنَا ونحو ذلك، وأَمَّا مَنْ قال بأنَّ " لَو " الَّتي للتمنِّي لا جوابَ لها ؛ فاستدَلَّ بقول الشَّاعر :[الوافر] ٨٨٥ - وَلَوْ نُبِشَ المَقَابِرُ عَنْ كُلَيْبٍ
فَيُخْبَرَ بالذَّنائِبِ أَيُّ زِيرِ
١٤٦
وهذا لا يدلُّ فإنَّ جوابها في البيتِ بعده، وهو قوله [الوافر] ٨٨٦ - بِيَوْمِ الشَّعْثَمَين، لَقَرَّ عَيْناً
وَكَيْفَ لِقَاءُ مَنْ تَحْتَ الْقُبُورِ
واستدلَّ أيضاً بأنَّ " أَنْ " تُفْتَحُ بعْد " لَوْ " ؛ كما تفتحُ بَعْد لَيْتَ في قوله [الرجز] ٨٨٧ - يَا لَيْتَ أَنَّا ضَمَّنَا سَفِينَهْ
حَتَّى يَعُودُ الْبَحْرُ كَيَّنُونَهْ