وها هنا فائدة ينبغي أنْ يُنْتَبَهَ لها، وهيَ : أَنَّ النُّحاة قالُوا : كلُّ موضعٍ نُصبَ فيه المضارعُ بإضمار " أنْ بعد الفَاءِ [إذا سقَطَتِ الفاءُ، جزم إلاَّ في النَّفسِ، ينبغي أن يزاد هذا الموضع أيضاً ؛ فيقال : و " إلاَّ " في جواب التَّمَنِّي بـ " لَوْ " ؛ فإنَّه ينصب المضارع فيه بإضمار " أَنْ " بعد الفاء الواقعة جواباً له، ومع ذلك، لو سَقَطَتْ هذه الفاءُ] لم يُجزم.
قال أَبُوا حَيَّانَ والسَّبب في ذلك : أَنَّها محمولةٌ على حَرْف التمنِّي، وهو " لَيْتَ " والجزمُ في جواب " لَيْتَ " إنما هو لتضمنها معنى الشَّرْط، أو لدلالَتها على كونه محذوفاً على اختلاف القولَيْن ؛ فصارت " لَوْ " فَرَعَ الفَرْعِ، فضَعُفَ ذلك فيها.
وقيلَ :" لَوْ " في هذه الآية الكريمة ونظَائِرِها لِما كانَ سيقعُ لِوُقُوع غيره، وليس فيها معنى التمنِّي، والفعلُ منصوب بـ " أَنْ " مضمرَة ؛ على تأويل عَطف اسْمٍ على اسمٍ، وهو " كَرَّة " والتقديرُ :" لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً، فنتبرَّأَ " فهو مِنْ باب قوله :[الوافر] ٨٨٨ - لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي
...........................
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٤٣
ويكون جواب " لَوْ " محذوفاً أيضاً ؛ كما تقدَّم.
وقال أبو البقاء رحمه الله تعالى :" فَنَتَبَرَّأَ " منصوبٌ بإضمارِ " أَنْ "، تقديره :﴿لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ﴾ فحلَّ " كرَّة " إلى قوله :" أَنْ نَرْجِعَ " ؛ لأنَّه بمعناه، وهو قريبٌ، إلاَّ أنَّ النحاة يأوّلون الفعل المنصوب بمصدرٍ ؛ ليعطفُوه على الاسم قَبْله، ويتركُون الاسم على حالِهِ ؛ وذلك لأنه قد يكُون اسْماً صَرِيحاً غير مَصْدر ؛ نحو " لَوْلاَ زَيْدٌ وَيَخْرُج، لأَكْرَمْتُكَ " فلا يتأتَّى تأويله بحرفٍ مصدريٍّ وفعلٍ.
قولُهُ تعالى :" كَمَا " الكافُ في موضعها نصبٌ : إِمَّا على كونها نعت مصدرٍ محذوف، أي :" تَبَرُّؤاً " وإِمَّا على الحاف مِنْ ضمير المصدر المعرَّف المحذوف أي
١٤٧
" نتبرّأهُ، أي : التَّبَرُّؤَ، مُشَابِهاً لِتَبَرُّئِهِمْ " ؛ كما تقرَّر غير مرَّة.
وقال ابن عطيَّة : الكاف في قوله :" كَمَا " في موضع نصب على النَّعت : إمّا لِمَصدرٍ : أو لحال، تقديره : مُتَبَرِّئِينَ، كما قال أبو حَيَّان.
أمَّا قوله " لِحَالِ " تقديرُهُ :" مُتَبَرِّئِينَ كما " فغيرُ واضحٍ، لأنَّ " ما " مصدرية، فصارتِ الكافُ الداخلة عليها مِن صفات الأفَفعال و " مُتَبرِّئين " : من صفات الأَعْيَان، فكيف يُوصف بصفات الأَفعال.
قال : وأَيضاً لا حاجة لتقدير هذه الحال، لأنَّها إذ ذاك تكون حالاً مؤكِّدة، وهي خلافٌ الأَصل، وأيضاً : فالمؤكَّد ينافِيهِ الحَذفُ ؛ لأنَّ التوكيد يُقَوِّيه، فالحَذْفُ يناقضه.
فصل في معنى التبرؤ قال ابن الخطيب - رحمه الله - قولهم :﴿لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا﴾ ذلك تمنٍّ منهم للرجعة إلى الدُّنْيا، كما تبرءوا يَوْمَ القيامة منهم ومفهوم الكلام : أَنَّهُمْ تمنُّوا لهم في الدُّنيا ما يُقَاربُ العذابَ، فيتبرّءُونَ منهم، ولا يخلصونهم، كما فعلوا بهم يومَ القيامة، وتقديرُه : فلو أنَّ لنا كَرَّةً فنتبرَّأَ منهم، وقد دَهَمَهُمْ مثلُ هذا الخَطْب، كما تبرءوا منَّا، والحالُ هذه ؛ لأنَّهم إِنْ تَمَنَّوا التبرُّؤ منهم، مع سلامةٍ، فأيُّ فائدة ؟.
قال القُرطبي : التبرُّؤُ : الانفصال.
قوله تعالى :﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ﴾ في هذه " الكافِ " قولان : أحدهما : أنَّ موضعها نصبٌ : إِمَّا نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، أو حالً من المَصدر المعرَّفِ، أي : يُريهمْ رؤية كذلك، أو يَحْشُرُهُمْ حَشْراً كَذَلِكَ، أوْ يَجزظِيهم جَزَاءً كذلك، أو يُريهم الإراءة مشبهةً كذلك ونحو هذا.
الثاني : أن يكون في موضع فرع، على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي : الأمر كذلك، أو حَشْرُهُمْ كذلك، قاله أبو البقاء.
قال أبو حيَّان : وهو ضعيفٌ ؛ لأنَّه يقتضي زيادة الكاف، وحذف مبتدأ، وكلاهما على خلاف الأَصل والإشارة بذلك إلى رأيهم تلك الأهوال والتقديرُ : مثل إراءتهم الأهوال، يريهمُ اللَّهُ أعمالَهُمْ حسَرَاتٍ.
وقيل : الإشارةُ إلى تبرُّؤ بعضهم من بعض والتقديرُ : كَتَبَرُّؤ بعضهم من بعض، يريهمُ اللَّهُ أعمالهُم حسَراتٍ عليهمح وذلك لانقطاع الرَّجَاء منْ كُلِّ أحدٍ.
١٤٨


الصفحة التالية
Icon