قوله تعالى :﴿لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ﴾ الآية.
هذه الآية رخصة من الله - تعالى - في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم.
قال ابن زيد : كان هذا في أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال ثم نسخ.
قال قتادة : نسختها :﴿فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ [التوبة : ٥].
وقيل : كان هذا الحكم لعلة، وهي الصلح فلما زال الصُّلح بفتح " مكة " نسخ الحكم، وبقي الرسم يتلى.
وقيل : هي مخصوصة في خلفاء النبي ﷺ ومن بينه وبينه عهد لم ينقضه.
قاله الحسن.
قال الكلبي : هم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف، وهو قول أبي صالح.
وقال مجاهد : هي مخصوصة في الذين آمنوا، ولم يهاجروا.
وقيل : يعني به النساء والصبيان ؛ لأنهم ممن لا يقاتل، فأذن الله في برهم.
وقال أكثر أهل التأويل : هي محكمة، " واحتجُّوا بأن أسماء بن أبي بكر سألت النبي ﷺ : هَلْ تَصِلُ أمَّهَأ حين قدِمتْ عليْهَا مُشْرِكةً ؟ قال :" نَعَمْ " خرجه البخاري ومسلم.
وقيل : إن الآية نزلت فيها.
وروى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه : أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - طلق امرأته قتيلة في الجاهلية، وهي أم أسماء بنت أبي بكر، فقدمت عليهم في المدة التي
٢٠
كانت فيها المهادنة بين رسول الله ﷺ وبين كفار قريش، فأهدت إلى أسماء بنت أبي بكر قرطاً وأشياء، فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله فذكر ذلك له، فأنزل الله تعالى :﴿لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ ذكر هذا الخبر الماوردي وغيره، وخرجه أبو داود الطَّيالسي في مسنده.
قوله :﴿أَن تَبَرُّوهُمْ﴾ وقوله :﴿أَن تَوَلَّهُمْ﴾ بدلان من الذين قبلهما بدل اشتمال، فيكون في موضع جرّ.
والمعنى : لا ينهاكم الله عن أن تبروا هؤلاء الذين لم يقاتلوكم، إنما ينهاكم عن تولي هؤلاء وهم خزاعة، صالحوا النبي ﷺ على ألاَّ يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحداً، فأمر ببرهم والوفاء لهم إلى أجلهم.
حكاه الفرَّاء.
وقوله :﴿وَتُقْسِطُوا ااْ إِلَيْهِمْ﴾.
أي : تعطوهم قسطاً من أموالكم على وجه الصلة، وليس يريد به من العدل، فإن العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل، قال ابن العربي.
فصل في نفقة الابن المسلم على أبيه الكافر.
نقل القرطبي عن القاضي أبي بكر في كتاب " الأحكام " له : أن بعض العلماء استدلّ بهذه الآية على وجوب نفقة الابن المسلم على أبيه الكافر، قال : وهذه وهلة عظيمة، إذ الإذن في الشيء، أو ترك النهي عنه لا يدل على وجوب، وإنما يعطي الإباحة خاصة ؛ وقد بيَّنَّا أنَّ القاضي إسماعيل بن إسحاق دخل عليه ذمي فأكرمه، فأخذ عليه الحاضرون في ذلك، فتلا هذه الآية عليهم ".
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٢٠
قوله تعالى :﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ﴾ أي : جاهدوكم على الدين
٢١
﴿وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ﴾ وهم عتاة أهل " مكة "، ﴿وَظَاهَرُواْ﴾ أي : عاونوا ﴿عَلَى إِخْرَاجِكُمْ﴾ وهم مشركوا مكة ﴿أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ﴾ أي : يتخذهم أولياء وأنصاراً وأحباباً ﴿فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٢١
قوله تعالى :﴿ يا أيها الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ﴾ الآية لما أمر المسلمين بترك موالاة [المشركين] اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وكان التناكح من أوكد أسباب المولاة، فبين أحكام مهاجرة النساء.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : جرى الصُّلح مع مشركي قريش عام الحديبية على أن من أتاه من أهل " مكة " رده إليهم، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب، والنبي ﷺ بالحديبية بعد، فأقبل زوجها - وكان كافراً - وهو صيفي بن راهب.
وقيل : مسافر المخزومي، فقال : يا محمد، اردد عليّ امرأتي فإنك شرطت ذلك، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية.
وقيل :" جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فجاء أهلها يسألون رسول الله ﷺ أين يردها.
وقيل : هربت من زوجها عمرو بن العاص، ومعها أخواها عمارة والوليد، فرد رسول الله إخوتها، وحبسها فقالوا للنبيّ ﷺ ردها علينا للشرط، فقال النبي ﷺ : كان الشَّرط في الرجال لا في النساء "، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية.
وعن عروة قال : كان مما اشترط سهيل بن عمرو على النبيِّ ﷺ في الحديبية ألاَّ يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا ردتته إلينا، وخليت بيننا وبينه فكرة المؤمنون ذلك، وأبى سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي ﷺ على ذلك، فردّ يومئذ أبا جندل إلى أبيه
٢٢