قوله تعالى :﴿هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ﴾ يعني : محمداً " بالهُدَى " أي : بالحقِّ والرشاد ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ بالحُجَج، ومن الظهور الغلبة باليد في القتال، وليس المراد بالظهور، أن لا يبقى دين [آخر] من الأديان، بل المراد : أن يكون أهل الإسلام عالين غالبين، ومن الإظهار ألا يبقى دين آخر سوى الإسلام في آخر الزمان.
قال مجاهدٌ : ذلك إذا أنزل الله عيسى، ولم يكن في الأرض دين إلاَّ دين الإسلام.
قال أبو هريرة :﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ بخروج عيسى، وحينئذ لا يبقى كافر إلا أسلم.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال :" قال رسول الله ﷺ " لَيَنْزلنَّ ابنُ مريمَ حكماً عادلاً، فليَكسرنَّ الصَّليبَ وليقتلنَّ الخِنْزيرَ، واليضَعَنَّ الجِزيَةُ، ولتتركن القلاص فلا يسعى إليها، ولتذهبنَّ الشَّحْناءُ والتَّباغُضُ والتَّحاسُد، واليَدعُونَّ إلى المالِ فلا يقبلهُ أحدٌ " وقيل : ليُظْهرهُ، أي : ليطلع محمداً ﷺ على سائر الأديان حتى يكون عالماً بها عارفاً بوجوه بطلانها، وبما حرفوا وغيَّروا منها " على الدّينِ " أي : على الأديان : لأن الدين مصدر يعبر به الجميع.
٥٨
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٥٨
قوله تعالى :﴿ يا أيها الَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ الآية.
قال مقاتلٌ : نزلت في عثمان بن مظعون، " قال : يا رسول الله، لو أذنت لي فطلقت خولة، وترهبت واختصيت، وحرمت اللحم، ولا أنام بليل أبداً، ولا أفطر بنهار أبداً، فقال النبي ﷺ :" إنَّ من سُنَّتِي النَّكاحَ فلا رهْبانِيَةَ في الإسْلامِ وإنَّما رَهْبانِيةُ أمَّتِي الجهادُ في سبيلِ اللَّهِ، وخصاء أمَّتِي الصَّومُ، فلا تُحرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لكُم، ومِنْ سُنَّتِي أنَّامُ وأقُومُ وأفْطِرُ وأصُومُ، فمنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فليْسَ منِّي "، فقال عثمان : لوددت يا نبي الله، أي التجارات أحب إلى الله فأتجبر فيها "، فنزلت.
وقيل :" أدُلُّكُم " أي : سأدلكم، والتجارة : الجهاد، قال الله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ﴾ [التوبة : ١١١] : الآية، وهذا خطاب لجميع المؤمنين.
وقيل : لأهل الكتاب.
وقيل : نزل هذا حين قالوا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا.
قال البغويُّ : وجعل ذلك بمنزلة التجارة ؛ لأنهم يرجون بها رضا الله عز وجل، ونيل جنته والنجاة من النار.
والتجارة عبارة عن معاوضة الشيء بالشيء، كما أن التجارة تنجي التاجر من الفقر فكذا هذه التجارة، وكما أن في التجارة الربح والخسران، فكذلك هذه التجارة، فمن آمن وعمل صالحاًن فله الأجر الوافر، ومن أعرض عن الإيمان والعمل الصالح، فله الخسران المبين.
قوله :﴿تُنجِيكُم﴾.
هذه الجملة صفة لـ " تجارة ".
وقرأ ابن عامر :﴿تُنجّيكُم مِن عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ بالتشديد.
والباقون : بالتخفيف، من " أنْجَى "، وهما بمعنى واحد ؛ لأن التضعيف والهمزة متعديان.
٥٩
والمعنى : يخلصكم من عذاب أليم، أي مؤلم.
قوله :﴿تُؤْمِنُونَ﴾.
لا محلّ له لأنه تفسير لـ " تجارة ".
ويجوز أن يكون محلها الرفع خبراً لمبتدأ مضمر، أي تلك التجارة تؤمنون، والخبر نفس المبتدأ، فلا حاجة إلى رابط.
وأن تكون منصوبة المحل بإضمار فعل، أي " أعني تؤمنون "، وجاز ذلك على تقدير " أن " وفيه تعسف.
والعامة على :" تؤمنون " خبراً لفظياً ثابت النون.
وعبد الله :" آمنُوا، وجاهدُوا " أمرين.
وزيد بن علي :" تؤمنوا، وتجاهدوا " بحذف نون الرفع.
فأما قراءة العامة، فالخبر بمعنى الأمر، يدل عليه القراءتان الشاذتان فإن قراءة زيد : على حذف لام الأمر، أي :" لتؤمنوا، ولتجاهدوا ".
كقوله :[الوافر] ٤٧٦٥ - مُحَمَّدُ تَفْدِ نفسكَ كُلُّ نَفْسٍ
..................................
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٥٩
وقوله تعالى :﴿قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ﴾ [إبراهيم : ٣١] في وجه، أي : لتَفْدِ ولتقيموا، ولذلك جزم الفعل في محل جوابه في قوله :" يتقي ".
وكذلك قولهم :" اتقى الله امرؤ فعل خيراً يثب عليه "، تقديره : ليتق الله.
وقال الأخفش : أن " تؤمنون " عطف بيان لـ " تجارة ".
وهذا لا يتخيل إلا بتأويل أن يكون الأصل : أن تؤمنوا، فلما حذفت ارتفع الفعل كقوله :[الطويل]
٤٧٦٦ - ألاَ أيُّهَذا الزَّاجِرِي أحْضُرَ الوَغَى
الأصل : أن أحضر الوغى.
وكأنه قيل : هل أدلّكم على تجارة منجية : إيمان وجهاد، وهو معنى حسن، لولا ما فيه من التأويل، وعلى هذا يجوز أن يكون بدلاً من " تِجارةٍ ".
٦٠