بمكان كذا يَحُلُّ - بضم العين وكسرها - وقُرئ :﴿فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي﴾ [طه : ٨١] بالوجهين، وأصله من " الحضلِّ " الذي هو : نقيض العقد، ومنه : حلَّ بالمكان، اذا نزل به ؛ لأنَّه حلَّ شدَّ الرحال للنُزول، وحَلَّ الدَّين إذا نزل به، لانحلال العقد بانقضاء المُدَّة، وحَلَّ من إحرامه، لأنه حَلَّ عقد الإحرام، وحلَّت عليه العقوبة، أي : وجبت لانحلال العقدة [المانعة من العذاب] ومن هذا :" تَحِلَّةُ اليمين " : لأن عقد اليمين تنحلُّ به.
والطَّيِّبُ [في اللغة : يكون بمعنى الطَّاهر، والحلال يوصف بأنَّه طيِّبٌح قال تعالى :﴿قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ﴾ [المائدة : ١٠٠] والطَّيِّب في] الأصل : هو ما يستلدُّ به ويستطاب، ووصف به الطَّاهر، والحلال ؛ على وجهة التشبيه ؛ لأنَّ النَّجس تكرهه النَّفس ؛ فلا تستلذُّه، والحرام غير مستلذٍّ، لأنَّ الشرع يزجر عنه.
وفي المراد بالطَّيِّب في الآية وجهان : الأول : أنه المستلذُّ ؛ لأنا لو حملناه على الحلال، لزم التكرار ؛ فعلى هذا يكون إنما يكون طيِّباً، إذا كان من جنس ما يشتهى ؛ لأنه إن تناول ما لا شهوة له فيه، عاد حراماً، وإن كان يبعد وقوع ذلك من العاقل إلاّ عند شبهة.
والثاني : أن يكون المراد ما يكون جنسه حلالاً، وقوله :" طَيِّباً " المراد منه : ألاَّ يكون متعلِّقاً به حقُّ الغير ؛ فإنَّ أكل الحرام، وإن استطابه الآكل، فمن حيث يؤدِّي إلى العقاب : يصير مضرَّةً، ولا يكون مستطاباً ؛ كما قال تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾ [النساء : ١٠].
قوله :﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ : قرأ ابنُ عامِرٍ، والكسَائيُّ، وقُنْبُلٌ، وحَفْصٌ عن عاصِمٍ، ويَعْقُوبُ :" خُطُوَاتِ " بضم الخاء، اولطاء، وباقي السَّبْعة بسكون الطاء.
أمّا من ضمَّ العين ؛ فلأنَّ الواحدة " خُطْوَة " فإذا جمعت، حرِّكت العين ؛ للجمع، كما فعلت في الأسماء التي على هذا الوزن ؛ نحو : غُرْفَةٍ وغَرَفاتٍ، وتحريك العين على هذا الجمع ؛ للفصل بين الاسم والصِّفة ؛ لأن كلَّ ما كان اسماً، جمعته بتحريك العين ؛ نحو :" تَمْرَة وتَمَرَات، وغَرْفَةٍ وغَرَفاتٍ، وشَهْوَةٍ وشَهَوَاتٍ " وما كان نعتاً، جمع بسكون العين ؛ نحو :" ضَخْمَةٍ وَضَخْمَاتٍ، وعَبْلَةٍ وعَبْلاَتٍ "، والخُطْوَة : من الأسماء، لا من الصفات، فتجمع بتحريك العين.
وقرأ أبو السَّمَّال " خُطَوَات " بفتحها، ونقل ابن عطيَّة، وغيره عنه : أنه قرأ :"
١٥٢
خَطَوَات "، بفتح الخاء، والطاء، وقرأ عليٌّ وقتادة، والأعمش بضمِّها، والهمز فأما قراءة الجمهور، والاولى من قراءتي أبي السَّمَّال، فلأن " فُعْلَة " الساكنة العين، السَّالِمَتَهَا، إذا كان اسماً، جاز في جمعها بالألف والتاء ثلاثة أوجهٍ، وهي لغاتٌ مسموعةً عن العرب : السُّكون، وهو الأصل، والإتباع، والفتح في العين، تخفيفاً.
وأما قراءة أبي السَّمَّال التي نقلها ابنُ عطيَّة، فهي جمع " خَطْوَة " بفتح الخاء، والفرق بين الخطوة بالضَّمَّ، والفتح : أنَّ المفتوح : مصدر دالًّ على المرَّة، من : خَطَا يَخْطُوا، إذا مشى، والمضموم : اسمٌ لما بين القدمين ؛ كأنَّه اسم للمسافة ؛ كالغرفة اسم للشيء المغترف.
وقيل : إنَّهما لغتان بمعنى واحدٍ ذكره أبُو البَقَاءِ.
وأمَّا قراءةُ عليٍّ، ففيها تأويلان : أحدهما - وبه قال الأَخْفَشُ - : أنَّ الهمزة أصلٌ، وأنَّه من " الخَطَأ "، و " خُطُؤَات " جمع " خِطْأَة " إن سمع، وإلاَّ فتقديراً، وتفسير مجاهد إياه بـ " الخَطَايَا " يؤيِّد هذا، ولكن يحتملُ أن يكون مجاهد فسَّره بالمرادف.
والثاني : أنه قلب الهمزة عن الواو ؛ لأنَّها جاورة الضمّة قبلها ؛ فكأنها عليها ؛ لأنَّ حركة الحرف بين يديه على الصَّحيح، لا عليه.
فصل قال ابن السَّكِّيتِ - فيما رواه عن اللِّحْيَانِيِّ - الخَطْوَة بمعنى واحدٍ، وحكى على الفرَّاء الخُطْوَة ما بين القدمين ؛ كما يقال : حَثَوْتُ حُثْوَةً، والحُثْوَة : اسمٌ لما تَحَثَّيْتَ، وكذلك غَرَفْتُ غُرْفَةًن والغُرْفَة : هو الشيء المُغْتَرَفُ بالكَفِّ، فيكون المعنى : لا تتَّبعوا سبيله، ولا تسلكوا طريقه ؛ لأنَّ الخُطْوَة اسم مكان.
قال الزَّجَّاج وابن قُتَيْبَة : خُطُوَاتُ الشَّيْطان طُرُقُهُ، وإن جعلت الخطوة مصدراً، فالتقدير : لا تَأَتَمُّوا به، ولا تَتَّبِعُوا أَثَرَهُ، والمعنى : أن الله تعالى، زجر المكلَّف عن تخطِّي الحلال إلى الشُّبه ؛ كما زجره عن تخطِّيه إلى الحرام، وبيَّن العلَّة في هذا التحذير، وهو كونه عدوّاً مبيناً، أي : متظاهراً بالعداوة ؛ وذلك لأنَّ الشيطان التزم أموراً سبعةً في العداوة : أربعة منها في قوله تعالى :﴿وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ [النساء : ١١٩].


الصفحة التالية
Icon