وقد تدقمت هذه المسألة مستوفاة.

فصل في نزول هذه الآية.


قال قتادةُ : هذه الآية نزلت بعد قوله :﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾، وذلك أنَّها لما نزلت قال رسول الله ﷺ :" أخبرني رب فلأزيدنهم على السبعين "، فأنزل الله تعالى :﴿فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ [التوبة : ٨٠] الآية.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد بالفاسِقينَ المُنافقُونَ.
فصل في تفسير الآية معنى قوله :﴿سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾.
أي : كل ذلك سواء لا ينفع استغفارك شيئاً ؛ لأن الله تعالى لا يغفر لهم، نظيره :﴿سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة : ٦]، ﴿سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الْوَاعِظِينَ﴾ [الشعراء : ١٣٦]، ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ﴾.
قال ابن الخطيب : قال قوم : فيه بيان أن الله - تعالى - يملك هداية وراء هداية البيان، وهي خلف فعل الاهتداء فيمن علم منه ذلك.
وقيل : معناه لا يهديهم لفسقهم، وقالت المعتزلة : لا يُسمِّيهم المهتدينَ إذا فَسَقُوا وضلُّوا.
فإن قيل : لم ذكر الفاسقين ولم يقل : الكافرين أو المنافقين أو المستكبرين مع أن كلاًّ منهم تقدم ذكره ؟.
فالجواب : أن كل واحد منهم دخل تحت الفاسقين.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٠٠
قوله :﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ﴾.
قد تقدم سببُ النزول، وأن ابن أبي قال : لا تنفقوا على من عند محمد " حتى ينفضوا " أي يتفرقوا عنه، فأعلمهم الله سبحانه وتعالى أن خزائن السماوات والأرض له ينفق كيف يشاء.
قال رجل لحاتم الأصم : من أين تأكل ؟ فقال :﴿وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾.
وقال الحسن :" خزائنُ السماوات " الغُيوبُ، وخزائنُ الأرضِ القلوبُ، فهو علاَّمُ الغيوب ومُقلبُ القُلوبِ.
قوله :﴿يَنفَضُّواْ﴾.
قرأ العامَّةُ :" ينفضُّوا " من الانفضاضِ وهو التفرقُ.
وقرأ الفضلُ بن عيسى الرقاشي :" يُنْفِضُوا " من أنفض القوم، فني زادهم.
ويقال : نفض الرجل وعاءه من الزاد فانفضَّ.
فيتعدى دون الهمزة ولا يتعدى معها، فهو من باب " كَببتهُ فانْكَبَّ ".
قال الزمخشري : وحقيقته جاز لهم أن ينفضوا مزاودهم.
ثم قال تعالى :﴿وَلَـاكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ﴾ أنه إذا أراد أمراً يسره.
قوله :﴿يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ﴾.
القائل بان أبيّ، كما تقدم.
وقيل : إنه لما قال :﴿لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ﴾ ورجع إلى المدينة لم يلبث إلا أياماً يسيرة حتى مات، فاستغفر له رسول الله ﷺ وألبسه قميصه، فنزل قوله :﴿لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾.
وروي أن عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سَلُولَ قال لأبيه : والله الذي لا إله إلا هو لا تدخل المدينة حتى تقول : إن رسول الله ﷺ هو الأعزُّ وأنا الأذلُّ، فقاله.
توهموا أن العزة لكثرةِ الأموال والأتباعِ فبيَّن اللَّهُ - تعالى - أنَّ العزَّة والمنَعَة والقُوَّة لله.
١١٥
قوله :﴿لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ﴾.
قرأ العامَّةُ : بضم الياء وكسر الراء مسنداً إلى " الأعزّ " و " الأذلّ " مفعول به، والأعزُّ بعضُ المنافقين على زعمه.
وقرأ الحسن وابنُ أبي عبلة والمسيبي :" لنُخْرجَنَّ " بنون العظمة، وبنصب " الأعزَّ " على المفعول به، ونصب " الأذَلَّ " على الحالِ.
وبه استشهد من جوز تعريفها.
والجمهور جعلوا " أل " مزيدة على حدّ " أرسلها العراك " و " ادخلوا " الأول فالأول.
وجوَّز أبو البقاء : أن يكون منصوباً على المفعولِ، وناصبه حال محذوفةٌ، أي : مشبهاً الأذلَّ.
وقد خرجه الزمخشري على حذف مضافٍ، أي : خروج الأول أو إخراج الأول.
يعني بحسب القراءتين من " خرج وأخرج " فعلى هذا ينتصب على المصدر لا على الحال.
ونقل الدَّاني عن الحسن أيضاً :" لنخرُجَنَّ " بفتح نون العظمة وضم الراء، ونصب " الأعزَّ " على الاختصاص كقولهم :" نحن العرب أقرى النَّاس للضيف " و " الأذلَّ " نصب على الحال أيضاً.
قاله أبو حيان.
وفيه نظر، كيف يخبرون عن أنفسهم أنهم يخرجون في حال الذل مع قولهم :" الأعز " أي :" أخصُّ الأعزَّ " ويعنون بـ " الأعزِّ " أنفسهُم.
وقد حكى هذه القراءة أيضاً أبو حاتم.
وحكى الكسائي والفرَّاء : أن قوماً قرأوا :" ليَخْرُجنَّ " - بفتح الياء وضم الراء - ورفع " الأعزّ " فاعلاً ونصب " الأذل " حالاً.
وهي واضحة.
وقرىء :" ليُخْرجَنَّ " - بضم الياء - مبنيّاً للمفعول، " الأعز " قائم مقام الفاعل " الأذلّ " حال أيضاً.
١١٦


الصفحة التالية
Icon