فصل استدلّ بعض العلماء بقوله تعالى :﴿ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾ على أنه لا يجوز الغبن في المعاملات الدنيوية، لأن الله تعالى خَصَّ التغابن بيوم القيامة فقال :﴿ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾.
وهذا الاختصاص يفيد أي أنه لا غبن في الدنيا، فكل من اطلع على غبن في بيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث.
واختاره البغداديون، " واحتجوا عليه بقوله - عليه الصلاة والسلام - لحبان بن منقد :" إذا بِعْتَ فَقُل : لا خَلابَةَ ولَكَ الخِيَارُ ثلاثاً " ولأن الغَبْنَ في الدنيا ممنوع منه بالإجماع في حكم الدين إذ هو من باب الخِدَاع المحرم شرعاً في كل ملّة، لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز عنه فمضي في البيوع، إذ لو حكما برده ما نفذ بيع أبداً ؛ لأنه لا يخلو منه، فإن ذكان كثيراً أمكن الاحتراز منه فوجب الرد به، والفرق بين القليل والكثير في الشريعة معلوم فقدرناه بالثلث، وهذا الحد اعتبر الشارع في الوصية وغيرها.
ويكون معنى الآية على هذا : يوم التغابن الجائز مطلقاً من غير تفصيل، وذلك يوم التَّغابن الذي لا يستدرك أبداً.
قال بعض علماء الصُّوفية، إنَّ الله - تعالى - كتب الغَبْنَ على الخَلْقِ أجمعين، فلا يلقى أحد ربه إلا مغبوناً ؛ لأنه لا يمكنه الاستيفاء للعمل حتى يحصل له استيفاء الثواب.
قال - عليه الصلاة والسلام - :" لاَ يَلْقَى اللَّهَ أحَدٌ إلاَّ نَادِماً إن كَان مُسِيئاً أن لَمْ يُحْسِنْ، وإن كَانَ مُحْسِناً أنْ لَمْ يَزْدَدْ " قوله :﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ﴾.
قرأ نافع وابن عامر : بالنون، والباقون : بالياء.
قوله :﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ﴾ يعني القرآن ﴿أُوْلَـائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾.
قال ابن الخطيب : فإنه قيل : قال الله تعالى في حق المؤمنين :﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ﴾ بلفظ المستقبل، وفي حق الكُفَّار قال :" والذين كفروا " بلفظ الماضي ؟ فالجواب : أن تقدير الكلام : ومن يؤمن بالله من الذين كفروا وكذبوا بآياتنا تدخله جنات ومن لم يؤمن منهم أولئك أصحاب النار.
فإن يل : قال تعالى :﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ﴾ بلفظ الواحد و " خَالدِينَ " بلفظ الجمع ؟.
فالجواب : ذلك بحسب اللفظ وهذا بحسب المعنى.
١٣٢
فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى :﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ بعد قوله :﴿خَالِدِينَ فِيهَآ﴾ وذلك بئس المصير ؟ والجواب : أن ذلك وإن كان في معناه فلا بد من التصريح [بما] يؤكده.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٢٧
فصل لما ذكر ما للمؤمنين ذكر ما للكفار فقال :﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي : بإرادته وقضائه.
وقال الفراء : يريد إلا بأمر الله.
وقيل : إلا بعلم الله.
وقيل : سبب نزول هذه الآية : أنَّ الكُفَّار قالوا : لو كان ما عليه المسلمون حقّاً لصانهم الله عن المصائب في الدنيا فبيّن الرب تعالى ما أصاب من مصيبة في نفس أو مال أو قول أو فعل يقتضي همّاً أو يجب عقاباً آجلاً أو عاجلاً فبعلم الله وقضائه.
فإن قيل : بم يتصل قوله :﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ ؟.
فالجواب : يتعلق بقوله :﴿فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [التغابن : ٨] كما أن من يؤمن بالله يصدق بأنه لا تصيبه مصيبة إلا بإذن الله.
قوله :﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ﴾ يصدق ويعلم أنه لا تصيبه مصيبة إلا بإذن الله ﴿يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ للصير والرضا.
وقيل : يثبته على الإيمان.
وقال أبو عثمان الجيزي : من صح إيمانه يهد الله قلبه لاتباع السنة.
وقيل :﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ عند المصيبة فيقول :﴿إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾ [البقرة : ١٥٦].
قال ابن جبير.
وقال ابن عباس : هو أن يجعل في قلبه اليقين ليعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه.
١٣٣
وقال الكلبي : هو إذا ابتلي صبر وإذا أنْعِمَ عليه شكر وإذا ظلم غفر.
وقيل :﴿يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ إلى نَيْل الثَّواب في الجنَّة.
قوله :﴿يَهْدِ قَلْبَهُ﴾.
قراءة العامة : بالياء مجزوماً جواباً للشرك لتقدم ذكر الله.
وابن جبير وابن هرمز طلحة والأزرق : بالنون على التعظيم.
والضحاك وأبو حفص وأبو عبد الرحمن وقتادة :" يُهْدَ " مبنياً للمفعول " قَلْبُهُ " قائم مقام الفاعل.
ومالك بن دينارٍ، وعمرو بن دينار، وعكرمة، " يَهْدَأ " بهمزة ساكنة " قلبه " فاعل به، بمعنى يطمئن ويسكن.
وعمرو بن فائد :" يَهْدَا " بألف مبدلة من الهمزة كالتي قبلها، ولم يحذفها نظراً إلى الأصل، وهي أفصح اللغتين.
وعكرمة ومالك بن دينار أيضاً :" يَهْدَ " بحذف هذه الألف إجراء لها مُجرى الألف الأصلية، كقول زهير :[الطويل] ٤٧٧٩ - جَرِيءٌ مَتَى يُظْلَمُ يَعَاقِبْ بظُلْمِهِ
سريعاً، وإلاَّ يُبْدَ بالظُّلْمِ يَظْلِمِ
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٣٣


الصفحة التالية
Icon