بالأفعال والتصرفات والأمور العادية، كما يستدلّ عليها بمجرد اليد الحسية، فإذا كانت العادة الغالبة والعرف المعروف يقتضي وجود فعل لم يكن الظاهر عدمه حتى يجرح قول من يدعي عدمه.
وهذا ينبي على أصول : أحدها : أنه قد وجد كسوة ونفقة وإنام تنازعاً في المنفق، فقال هو : مني، وقالت هي : من غيرك، فهنا الأصل عدم غيره، ثم إنها تطالب بتعيين ذلك الغير، فإن ادعت ممتنعاً لم يقبل بحال، وإن ادعت ممكناً فهو محل التردُّد، فإن إنفاقه واجب، والأمر الحادث يضاف إلى السبب القوي دون الضعيف.
والأصل الثاني : أن العادة والعرف إذا قضي بوجود أمر فهل القول قول نافيه، أو قول مثبته.
والأصل الثالث : أن ما يتعذر إقامة البينة عليه لا يكلف إقامة البينة عليه كالوطء، ومن المعلوم أن المعاشرة بالمعروف التي أمر الله بها ورسوله ليس فيها شهادة على المرأة بذلك ؛ لأن ذلك ليس من الأمر بالمعروف، ولهذا لم يفعله أحد على عهد سلف الأمة ولا يفعله جماهير بني آدم، وفعله إما متعذّر أو متعسر، فإنه إن أطعمها مما يأكل فليس عنده من يشهد على إطعامها وإن ناولها طعاماً كلَّ يوم فمن المتعسّر شهود في كل وقت، وقد يكونان ساكنين حيث لا شهود، وهذا ظاهر بيِّن.
الأصل الرابع : أن المرأة مفرطة بترك أخذ نفقتها منه بالمعروف، ومطالبته بهذا إذا كان لا ينفق، بخلاف ما إذا كان غائباً، وهي الصُّورة التي روي عن عمر أنه أمر فيها بنفقة الماضي، بل قد يقال : إن ذلك رضا منها بترك النفقة، وليس هذا قولاً بسقوط النفقة في الماضي، بل بأن هذا دليل من جهة العرف على أنها إما أن تكون قد أنفق عليها، أو تكون راضية بترك النفقة.
وهذا أصل خامس : وهو أن العادة المعروفة تدل على أن المرأة إذا سكنت مدة طويلة عن المطالبة بالنفقة مع القدرة على الطلب كانت راضية بسقوطها.
فصل في النفقة والكسوة بالمعروف وأما النفقة والكسوة بالمعروف وهي الواجبة بنصّ القرآن، فهو ما كان في عرف الناس في حالهما نوعاً وقدراً وصفة، وإن كان ذلك يتنوّع بتنوّع حالهما من اليسار والإعسار والزمان كالشتاء والصيف والليل والنهار، والمكان فيطعمها في كل بلد مما هو عادة أهل البلد والعرف عندهم.
وقال بعضهم : هي مقدَّرة بالشَّرع نوعاً وقدراً مُدّاً من حنطة، أو مدّاً ونصفاً أو مدَّين
١٧٤
قياساً على الإطعام الواجب في الكفارة.
والصواب المقطوع به ما عليه الأمة علماً وعملاً قديماً وحديثاً لقول الله تعالى :﴿رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة : ٢٣٣]، " وقوله - عليه الصلاة والسلام - لهند :" خُذِي مَا يَكْفيكِ وَولدّكِ بالمَعْرُوفِ "، ولم يقدر لها نوعاً ولا قدراً، ولو كان ذلك مقدّراً بشرع لبينه لها قدراً ونوعاً كما بين فرائض الزكوات والديات.
" وقال - عليه الصلاة والسلام - في خطبته بـ " عرفات " " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " ومن المعلوم أن الكفاية بالمعروف تتنوع بحال الزوجة في حاجتها، وبتنوع الزمان والمكان وبتنوع حال الزوج في يساره وإعساره، فليست كسوة القصيرة الضئيلة ككسوة الطويلة الجسيمة، ولا كسوة الشتاء ككسوة الصيف ولا كفاية طعام الشتاء مثل طعام الصيف ولا طعام البلاد الحارَّة كالباردة، ولا المعروف في بلاد التمر والشعير كالمعروف في بلاد الفاكهة والخبز.
" وقال - عليه الصلاة والسلام - للذي سأله : مَا حَقُّ زَوجةِ أحدنّا عليْهِ ؟.
قال " نُطْعِمُها إذَا أكَلْتَ، وتَكسُوهَا إذَا اكتَسيْتَ، ولا تَضْرِبِ الوَجْهَ ولا تُقَبِّحْ ولا تَهْجُر إلاَّ في البيْتِ ".
وهكذا قال في نفقة المماليك :" هُمْ إخْوانُكُمْ وخَولكُمْ جعلهُم اللَّهُ تَحْتَ أيْدِيكُمْ فَمَن كَانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدهِ فليُطْعِمْهُ ممَّا يأكلُ، وَليُلْبِسْهُ ممَّا يَلبسُ ولا تُكلِّفُوهُمْ ما يَغلبُهُمْ فإن كلَّفْتُموهُمْ فأعينُوهُمْ " ففي الزوجة والمملُوك أمر واحد، فالواجب على هذا هو الرزق والكسوة بالمعروف في النوع، والقدرة، وصفة الإنفاق.
فأما النوع فلا يتعين أن يعطيها مكيلاً كالبُرِّ، ولا موزوناً كالخبز، ولا ثمن ذلك كالدَّراهم، بل يرجع في ذلك إلى العرف، فإذا أعطاها كفايتها بالمعروف مثل أن تكون عادتهم أكل التَّمْر والشعير فيعطيها ذلك، أو تكون عادتهم أكل الخبز والأدم، فيعطيها ذلك والطبيخ، فعطيها ذلك، وإن كان عادتهم أن يعطيها حباً فتطحنه في البيت فعل
١٧٥