ذلك، وإن كان يطحن في الطَّاحون ويخبز في البيت فعل ذلك، وإن كان يخبز في غير البيت فعل ذلك، وإن كان يشتري مخبُوزاً في السُّوق فعل ذلك، وكذلك الطَّبيخ ونحوه، فذلك هو المعروف فلا يتعيَّن عليه دراهم ولا حَبُّ أصلاً، فإن تعيين ذلك من المنكر ليس من المعروف، وهو مصرٌّ بها تارة، وبه تارة، وبهما أخرى، وكذلك القدر لا يتعين مقدراً مطرداً، بل تتنوع المقادير بتنوع الأوقات.
وأما الإنفاق، فقد قيل : إن الواجب تمليكها النفقة والكسوة.
وقيل : لا يجب التمليك، وهو الصَّواب، فإن ذلك ليس من المعروف، بل عرف النبي ﷺ والمسلمون إلى يومنا هذا أن الرجل يأتي بالطعام إلى منزلة فيأكل هو وزوجته ومملوكه جميعاً تارة، وتارة أفراداً، ويفضل منه فضل تارة فيدخرونه، ولا يعرف المسلمون أنه يملكها كل يوم تتصرف فيها تصرف الملاك، بل من عاشر امرأته بمثل هذا كان عند المسلمين قد تعاشرا بغير المعروف، وتضارّا في العشرة، وإنما يفعل أحدهما ذلك بصاحبه عند الضرار لا عند الشعرة بالمعروف.
وأيضاً فالنبي ﷺ أوجب للزوجة مثل ما أوجب للمملوك كما تقدم.
وقد اتَّفق المسلمون على أنه لا يجب تمليك المملوك نفقته، فدل على عدم وجوب التمليك في حق الزوجة.
وإذا تنازع الزوجان فمتى اعترفت الزوجة أنه يطعمها إذا أكل، ويكسوها إذا اكتسى، وكان ذلك هو المعروف لمثلها في بلدها، فلا حق لها سوى ذلك، وإن أنكرت ذلك فعلى الحاكم أن يجبره أن ينفق بالمعروف، ليس على الحاكم بل ولا له أن يأمر بدراهم مقدرة مطلقاً أو حَبّ مقدر مطلقاً، لكن يذكر المعروف الذي يليق بهما.
فصل في تفسير الآية قال القرطبي في قوله تعالى :﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ﴾ أي :" لينفق الزوج على زوجته وعلى ولده الصَّغير على قدر وسعه، فيوسع إذا كان موسعاً عليه، ومن كان فقيراً فعلى قدر ذلك، فتقدر النَّلإقة بحسب حال المنفق والحاجة من المنفق عليه بالاجتهاد على مجرى العادة ".
وقال الشافعي رحمه الله : النفقة محدودة، ولا اجتهاد للحاكم ولا المفتي فيها وتقديرها هو بحال الزَّوج وحده من يُسره وعُسْره، ولا اعتبار بحالها، فيجب لابنه الخليفة ما يجب لابنة الحارس، فيلزم الزوج الموسر مدَّان، والمتوسط مد ونصف والمعسر مُدّ ؛ لظاهر قوله تعالى :﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ﴾.
١٧٦
فجعل الاعتبار بحال الزوج في اليُسْر والعُسْر ؛ ولأن الاعتبار بحالها يؤدي إلى الخصومة ؛ لأن الزوج يدعي أنها تطلب فوق كفايتها، وهي تزعم أنها تطلب قدر كفايتها، فقدرت قطعاً للخصومة لهذه الآية، ولقوله تعالى :﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ [البقرة : ٢٣٦].
وأجاب القرطبي : بأن هذه الآية لا تعطي أكثر من الفرق بين الغني والفقير، وأنها تختلف بعُسْر الزوج ويُسْره، فأما أنه لا اعتبار بحال الزوجة فليس فيها، وقد قال تعالى :﴿وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة : ٢٣٣]، وذلك يقتضي تعلق المعروف في حقها ؛ لأنه لم يخص في ذلك واحداً منهما، وليس من المعروف أن يكون كفاية الغنيمة مثل نفقة الفقير، وقد " قال عليه الصلاة والسلام لهند :" خُذِي ما يَكْفيكِ وولَدَك بالمعرُوفِ "، فأحالها على الكفاية حين علم السعة من حال أبي سفيان.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٧٢
قوله :﴿وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ﴾.
لما ذكر الأحكام ذكر وحذَّر مخالفة الأمر، وذكر عُتُوَّ وحُلُول العذاب بهم، وتقدم الكلام في " كأين " في " آل عمران ".
قوله :﴿عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا﴾.
ضمّت " عَتَتْ " معنى أعرض، كأنه قيل : أعرضت بسبب عتوِّها، أي : عتت يعني القرية والمراد أهلها.
وقوله :﴿فَحَاسَبْنَاهَا﴾ إلى آخره.
يعني في الآخرة، وأتى به بلفظ الماضي لتحقُّقه.
وقيل : العذاب في الدُّنتيا، فيكون على حقيقته، أي جازيناها بالعذاب في الدُّنيا ﴿وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً﴾ في الآخرة وقيل : في الكلام تقديم وتأخير، أي : فعذبناها عذاباً نكراً في الدنيا بالجوع والقَحْط والسَّيف والخَسْف والمَسْخ وسائر المصائب، وحاسبناها في الآخرة حساباً شديداً.
والنُّكْر : المنكر، وقرىء مخففاً ومثقلاً، وقد مضى في سورة الكهف.
قوله :﴿فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا﴾.
أي : عاقبة كفرها ﴿وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرَهَا خُسْراً﴾ أي : هلاكاً في الدنيا بما ذكرنا وفي الآخرة بجهنم.
١٧٧